شهادة غير نسائية


شهادة غير نسائية
                                  
 بقلم : هالة فهمي
 
استشراء ظاهرة محاصرة النساء داخل دوائر تعبيرية بعينها، وخطورة هذا الظن وهذه المحاصرة لا تقل عن محاصرة المرأة داخل البيت .. فنحن نريد للمرأة العربية أن تخرج لا أن تحاصر، وهذه الموجة شاعت في السنوات الأخيرة أو على أقصى تقدير العقود الماضية بتأثيرات الغرب وإدعاءته حول تحرير المرأة العربية .. واستغلال بعض جمعيات حقوق المرأة غير المتخصصة .. ونحن لم نجد أحدا قبل هذه الموجات يقيم كتابات سهير القلماوي، وملك عبد العزيز، وعائشة عبد الرحمن و أضرابهن ..على أنها كتابات نسائية أو أنها أدب مرأة .. كما أن أحدا لم يضع شعر الخنساء، وولادة بنت المستكفي ، وفضل الشاعرة في العصور الإسلامية المختلفة تحت لافتة  " تنبه  شعر نسائي " !!

وإن كان هذا نتيجة تجوالي في تاريخنا وتراثنا فإني أتحدث عن أدب أراه إنسانيا وعربيا ولا أريد له هذا الحصار .. أنه ما أُنتجه أنا بصفتي إنسانا عربيا لا بصفتي الأنثوية.
لعلي أكون امرأة محظوظة لأنني نشأت في منزل يقدس الثقافة والقراءة، لأب عشق الأدب .. تفتحت عيوني على مكتبة كبيرة في بيتنا. ولم يحالفني الحظ فقط في النشأة الثقافية .. إنما وجودي في عائلة يسعدها إنجاب البنات وتستبشر بالأنثى على عكس الموروث المصري القديم بأن الولد هو الامتداد لعصب الأب الضارب في الأرض والممتد لعنان السماء .
وكوني الحفيدة الكبرى وهبني القدرة على ألا تنقسم تربيتي بين الممكن وغير الممكن ، فخضت غمار الحياة بقوة .. درست ما رغبت .. وتزوجت بمن أحب رجل عالم مثقف يقدر قيمة الكلمة فخططت لحياتي كأي إنسان يتمتع بالحرية التي هى قرين للإبداع فإن لم يكن المبدع حرا في تفكيره فلن يكون حرا في إبداعه. والحرية لا تتجزأ فالمبدع الحقيقي هو من يمتلك حريته ويتحمل ثمنها.

هذه المقدمة لا تخرج عن الشهادة الإبداعية وإنما تؤكد عليها .. لأنني مؤمنة بأن المبدع لا ينقسم على ذاته فالتجارب الإنسانية والحياتية تنعكس على الإبداع بشكل أو بأخر ولهذا كانت الصورة لدى واضحة ولأن المبدع يرقى عن الواقع .. فهو لا يعيد صياغة هذا الواقع وإنما يرسم ملامحه برؤيته ونظرته.
وقد تعددت صور المرأة في إبداعي .. بل لعلي اكتشفت بعد العديد من الإصدارات أنني مهمومة بالكتابة عن موضوعات تخص المرأة على كافة شرائحها .. وهذا لا يعني الأدب النسوي لأنني لا أؤمن بالتقسيمات ولكن إيمانا بتكاملية وحدة المجتمع والحياة ، فلا يمكن الحديث عن الرجل دون ذكر المرأة والعكس فهما جناحا التحليق في الكون.. والعلاقة السرمدية بينهما تجعلهما المحور الحقيقي للإبداع .. لأنهما الوحدة البنائية لهذا الإبداع .. فالإبداع جولة اجتماعية وتاريخية ونفسية من منظور المبدع .. لا من باب قهر الرجل للمرأة أو قهر المرأة للرجل .. إنما  و ربما لقهرهما معا سواء كان قهرا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا.
من هنا جاء تنوع صورة المرأة لدى .. فعبرت عنها :
عاشقة ،مبدعة ، ظالمة أو مظلومة ، طموح ، صاحبة قضية ، ثم المرأة بين القضايا السياسية والاجتماعية .. كل هذا من خلال تنوع إنتاجي الإبداعي ، ككاتبة للقصة والرواية والمسرح أو شاعرة ودارسة متخصصة للنقد.



في القصة:

تناولت صورة المرأة في أربع مجموعات قصصية صدرت لي ففي مجموعة ( للنساء حكايات) ومن خلال إحدى وعشرين قصة قصيرة احتلت صورتها مساحة كبيرة مؤثرة في حركة النصوص ولا يمكن القول بأن كل امرأة في هذه النصوص تعد تمثيلا موضوعيا لحياة المرأة ، إنما هناك تجاوز في الشكل والدلالة ففي قصة (رجولة أنثى) حاولت التدليل على أن الرجل العربي كلما تنازل عن دوره .. مسخت ملامح المرأة فلا هى بالرجل ولا هى بالأنثى .. وكيف أن هذه العلاقة التي يربطها ذلك الخيط الرفيع جدا .. لا يمكن أن تستمر مع تنمر المرأة  - بطلة القصة- واستغلالها للحرية على سبيل قلب الاوضاع .. لا تصحيحها.
العكس في ( علامات) هى امرأة مقهورة بفعل وراثة القهر وتناوبه عليها .. فالأب قاهر لها وبعد ذلك الزوج، ولأن للقهر علامة في النفس البشرية تفوق كي النار .. فهى هنا تطارد الخوف ويطاردها حتى بعد وفاة الأب إلا أن تعاليمه لها بأن تظل تلك المرأة التى وشم على عقلها الخوف من كل مذكر، مازالت راسخة في نفسها الباطنة بينما تختلف الصورة في قصص ( غلطة .. عشق فقط .. مذكرات أنثى .. وجناحان ) فهى المرأة المتمردة  على الواقع الذكورى الذي يتفنن في وأد حلمها بديلا عن وئدها .. بينما في قصتى (نعيمة وسيدة) تعبير عن قهر المجتمع ذكورا وإناثا للمواطن الضعيف الذى لا يملك عقله.. وفي قصص ( السماء تمطر رجالا ، البيت المهجور، هجرة ، جنازة سارة جدا ، حبات التوت .. تتجلى صورة المرأة بين القضايا السياسية والإجتماعية .. أما قصة ( جناحان ) فالمرأة المتمردة التي تحاول الخروج على الأنماط السائدة من التفكير ( الذكورى ) أو المواريث الإجتماعية البالية من ضغوط وما يمثله الفقر والجهل من تفاعلات تحكم النظرة إلى المرأة من جهة وتحكم سلوك المرأة من جهة أخرى .
ولعل نسائي في مجموعة ( للنساء حكايات ) كن يحملن التمرد في كل تصرفاتهن ولكنه تمرد هادىء يتناسب مع طبيعة النشأة العربية التي زرعت داخلنا أطرا ووضعت عليها أصفادا.
حاولت في مجموعتي الثانية ( ربع رجل) أن أفك هذه الأصفاد وأحيلها إلى سوط لاذع وربما أرجوحة تهدهد الأفكار أحيانا .. لكنها في الغالب دفقة من العزيمة تشد على يدالقارىء .. وفي قصص ( الفئران تقرض ذاكرتي .. صمت .. لسان .. زئير .. لغة أخرى .. جنيه ذهب ) كان الرجل هو الذي يتصدر النص لكنه الرجل الذي يؤكد على أن فساد المجتمع في تلك الحقبة الزمنية وسقوط  كل من الرجل والمرأة فريسة للأمراض الاجتماعية والتراجع عن القيم والعادات، وقد جاءت القصص بشكل صياغي رامز عن تلك العلاقة الشفافة بين الرجل والمرأة وفي (ربع رجل .. أيس كريم مر .. ثوب أسود للزفاف .. سيريالية .. القطة .. مسافرة فوق الخطوط.. أربع سنوات تكفي .. شارب زوجتي ) تنوعت شرائح النساء بين المثقفة والعاشقة .. والأم الصغيرة .. أو الأخت التي تسافر فوق خطوط (الطباشير) متحدية تلك التأشيرات التي فصلوا بها حدود الوطن العربي.
إن نسائي في المجموعات القصصية يتعرضن لمشكلات إجتماعية وتربوية غاية في الأهمية منها مشاكل الاختيار عند الزواج والتفاعل مع المجتمع أو الحرمان من حق التعبير عن رغباتها .. وقد تكون المرأة المسيطرة التي تقهر الرجل وتمارس عليه إسقاطا نفسيا كقصة ( شارب زوجتي ) و( جنازة سارة جدا ) وقد جاءتا في شكل ساخر .. وكذلك ( رجولة أنثى ) والتي حاولت المرأة أن تسقط  كل مخزون القهر وتاريخه على الزوج الضعيف المستسلم لهذا القهر لكنه عندما يفيق ؛ يغادرها وللأبد.
ويعود التمرد .. لكن هذه المرة من خلال المبدعة عندما تمردت على الشكل الإبداعي في القصة القصيرة جدا وقمت بتقسيم المجموعة الثالثة ( الإنسان أصله شجرة) إلى ثلاثة اجزاء:
" هن " والتي ضمت المرأة المخادعة .. الخائفة من الهجر .. الغيور .. المجاهدة .. الشهيدة .. والمنتهك حقها كأنسان. وفي " تشكيل " والذي يدور حول المواقف السياسية والإقتصادية من خلال ( القادمون يسرقون الشمس ) ، ( امرأة من صبار ) ،( الإنسان أصله شجرة) وكيف أن المرأة رغم استبعادها عن المشاركة في الحياة السياسية لعقود زمنية إلا أنها استطاعت أن تعبر بقوة من خلال إبداعها إلى المتلقي لتشارك الرجل إبداع بإبداع .
أما القسم الثالث والذي جاء تحت عنوان ( الفقد ) :
وفيه ( أحلام مثلجة) التي ناقشت فيها غربة الإنسان عن وطنه وعن نفسه من خلال مشاعر المرأة التي تخاف الغربة وترفضها ، ( موسم رحيل العرائس) ، ( حبات من عقد الفل ) وهما أدب مقاومة وقمت بإهدائهما إلى شهيدات الوطن العربي في فلسطين والعراق .
تنوع الشخصيات في مجموعاتي القصصية كان تحديا لأن المبدعة المرأة وإن كانت محظوظة بحكم النشأة والثقافة إلا أنها لا تنفصل عن قضايا مجتمعها .

ثانيا المسرح :

أن أفكر في طرح عملين مسرحيين بعنوان ( نساء ماريونيت ) و (الصراحة لعبة النساء ) من خلال مجموعة من النساء وألا يظهر الرجل رغم أنه محور العمل على خشبة المسرح فهذا ليس موقفا من الرجل بقدر ما هو التحدي والتمرد على الشكل المسرحي فهذه هى المرة الأولى التي يقدم فيها عمل مسرحي كل بطلاته من النساء وكذلك الإخراج والديكور وكل ما يتصل بالعملية الإخراجية.
ولعلي أردت في هاتين المسرحيتين أن أناقش قضية الفصام الثقافي فقد اعتدنا أن الفصام إما نفسي وإما ذهاني .. ولكننا لم نعترف بالفصام الثقافي الذي أصاب العديد من المثقفين والمبدعين .. بمعنى أن المثقف قد يتحدث عن دور المرأة المثقفة وأهميتها في الحياة الثقافية وفي تطوير وتنوير المجتمع . إلا أن هذا الشعور ينقلب مئة درجة في حياته اليومية والشخصية ويغلبه حس الإمتلاك فيما يختص بنساء بيته أو ذويه وتتهاوى كلماته العظيمة عن الحرية والمساواة ويحل محلها العزلة والإمتلاك والغيرة المدمرة احيانا .. هذا فيما يتعلق بالرجل .. أما المتاجرون بقضايا المرأة فهم دائما يسببون لغطا قد يسيئ إلى من يفعل هذا عن وعى وثقافة.
هذا ما طرحته في مسرحية ( الصراحة لعبة النساء) وأردت من خلالها التأكيد على أن مشكلات المرأة العربية واحدة مهما اختلفت الثقافات والتيارات السياسية والفكرية في هذه البلاد.. فجاءت بطلات العمل من خلال التمثيل لنمازج متعددة من وطننا العربي .. مؤكدة أن حرية المرأة تنبع من ذاتها ولا توهب لها.
ولعل العمل الثاني ( نساء ماريونيت) أكد على نفس الفكرة والهدف وهو محاربة التناقض والإضطراب الفكري في حياتنا و إبداعنا .
فالجانب الواحد في التفكير يقودنا عادة إلى التعصب .. وعندما تكون النظرة متخلفة ومتعصبة (نموذجا) ضد خروج المرأة للعمل، وضد تعليمها وتثقيفها ، لابد أن ينعكس هذا في رؤية ومنهج تفكير المبدع الذي هو جزء من مجتمعه.
أما التعددية في التفكير فأنها تحمل قدرا كبيرا من الموضوعية والحرية والعدالة في الرؤية الإجتماعية وخاصة بالنسبة إلى المرأة لأن التفكير التعددي يجعلنا نرى المرأة من زوايا مختلفة فهى الأم العاملة والحبيبة والأخت والمثقفة والمتمردة والعاشقة والزوجة ... الخ.
وتنعكس هذه التعددية في التعبير الإبداعي وهذا ما حاولت نقله من خلال إبداعاتي وتنوعها .



ثالثا في الشعر:

لعل صورة المرأة في القصائد التي صغتها من خلال ديوان شعر (كافرة) أو (على جدار الروح) أو (احيانا محال) أو من خلال كتابي النثري ( وجع دافئ) هى المرأة العاشقة التي تعاني انفلات الرجل من دائرة عشقها واقعا أم خيالا أم خوفا من الخيانة .. المرأة لدى في أشعاري (كافرة) بكل ما هو غير الحب .. بداية من الحب الأصغر حب المرأة للرجل ونهاية بالحب الأكبر للوطن الذي بات غافيا في حضن الخوف .
المرأة في أشعاري ترفض التلاعب بمشاعرها ورغم انصهارها في محبوبها إلا أنها تدافع عن كبريائها.. وهذا الكبرياء لا يتجزأ عن كرامة الوطن الذي تدافع عنه بكل روحها.   

رابعا الرواية:

في رواية ( بنات الحاج) تناولت أجيال من نساء عائلة الحاج شاهين ومن خلالهن غصت داخل أسرار المجتمع الريفي بكل أبعاده وشخوصه .. (فملك ) بطلة الرواية تمردت على الثروة ومرادفها الموضوعي الظلم وانتصرت للحب بعد أن عرت هذا المجتمع المختبىء خلف سطوة المال والجاه . رافضة الاستسلام لنموذج شخصية العمة الكبرى التي ركضت خلف الخيال ولا العمة الثانية التي استسلمت لرجال العائلة .. ومن خلال الثلاثة نماذج تعرضت لتاريخ المرأة الإجتماعي في قرية مصرية هى نموذج لمصر بكل قراها ومدنها.. ومؤكدة من خلال هذه الرواية على أن الرجل والمرأة هما افراز لتركيبة اجتماعية متفاوتة .. بل اختلاف المعطيات والحقوق للمرأة في وطننا العربي ،يقدم لنا صورة متغيرة لها.

خامسا الدراسات:

لعل الصورة اختلفت عندما أردت إبراز صورة تلك المرأة في عيون الرجل الزوج الشاعر ، فجاءت دراستي المتبحرة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي .. حتى وقتنا الراهن من خلال كتابي( في هجاء الزوجات) الذي رصدت فيه سمة تعد في ظاهرها حربا رجالية ضد المرأة ووجهة نظر وحيدة .. لا يرى فيه من المرأة الزوجة إلا كل العاهات الشكلية والعقلية والوجدانية من قبح ونكد وخيانة ونشوز وغباء وجشع .. وكأن هذا الرجل الهجاء أراد أن يسقط كل عيوبه على المرأة الزوجة، وإن كنت أنا لم أدع المرأة مجرد هدف تلقى عليه السهام .. بل بحثت في كتابي هذا عن أسلحة الردع النسائية وردود المرأة الزوجة على زوجها الشاعر الهجاء .. فكانت المفاجأة أن المرأة قادرة على الهجاء إلا أنها لا تفعل ربما لأن الرواة كانوا من الرجال في العصور الأولى وربما لأنها قدست الرجل لفترات طويلة .. فكان الزوج بمكانة الأب. . وهذا ذنب آخر يضاف للجرائم النفسية التي ارتكبت بحق المرأة.

هكذا تنوعت كتاباتي عن المرأة في كل الأشكال الإبداعية .. ما الفرق بيني وبين أي مبدع رجل وهو يتناول مثل هذه المهام والطبائع المسندة إلى المرأة؟
الفرق هنا عمق التناول والمعايشة والخبرات الخاصة والثقافة الذاتية التي أظنني قد نقلت فيها هذه الشخوص وهذه الحالات المرتبطة بالمرأة من العمومية إلى الخصوصية بحيث بدت هذه الشخصيات النسائية لمن يطلع على إبداعاتي كائنات حية نامية متحركة حتى أن بعض القراء ألبسوني بعض هذه الشخصيات ولكنني أكدت أنني لست أية واحدة من هؤلاء جميعا وفي الوقت نفسه أنا وحدي كل هذه النساء .