من هو علي جناح التبريزي و من هو قفة ؟

من هو علي جناح التبريزي و من هو قفة ؟

  هكذا يتسائل ألفريد فرج مكتشف التبريزي و قفة و خالقهما الجديد , اكتشفهما في طيات ليالي ألف ليلة و ليلة , جانبا إلي جنب شقيقي قفة القديمين : بقبق الكسلان الحالم الذي حطم حلمه بيده من فرط كبره و غروره و احتقاره للعمل و الجد , و من قبله أبو الفضول الحلاق الحمال الشحاذ منقذ المكروبين رغم أنوفهم .. أو رغم أنفه, المظلوم دائما , يظلم نفسه بفضوله أو يظلمه الناس لشهرته بهذا الفضول.

  اكتشف ألفريد فرج التبريزي و قفة ثم أعادهما إلي الحياة  من جديد , بأن جلبهما من الغاية الخيالية الساحرة التي زرعها أجدادنا جميعا في بغداد و القاهرة و الموصل و بخاري  و البصرة و الاسكندرية و صنعاء و سمرقند و دمشق و دمياط  صنعوها من أحلامهم , مخاوفهم , مسراتهم, و سموها " ألف ليلة و ليلة" ثم تسللت هذه الحكايات لتسكن وجداننا بشرا عادين أو مبدعين فنانين..

  و يجيب ألفريد فرج علي تساؤله في كلمته التي ذيل بها مسرحيته يقول بأنه:
" لم يتصور أبدا أن أيا منهما عاش في مدينة بعينها في عصر بعينه " و بذلك نتجنب تصور أي من أبطالنا علي أي نحو واقعي .. يضيف ألفريد :" أتخيل أننا لو شئنا أن نستخرج لأي منهم بطاقة شخصية لتعين علينا أن نسجل فيها محل ميلاده ألف ليلة و ليلة.. تاريخ ميلاده : ذات الليلة ".

  فمن هو التبريزي إذن , و من هو قفة ؟ ربما كانا مجرد نصابين ظريفين , قررا أن يواجها العالم القاسي بإفلاسهما و جوعهما و ذكائهما المربد .. أولهما خيالي طموح و جسور مرح متلاف حاذق محب للجمال و الحياة و طالب عدل, و ثانيهما واقعي حريص سافر شحيح فتشبث بالممكن عاشق للحياة و للمرح كما يصفهما بذلك المؤلف .

  إننا لكي نجيب علي الأسئلة التي تطرح نفسها في عمل ألفريد فرج علينا أن نقرأ سيرتهما المتفرقتين في ألف ليلة و ليلة نفسها . نلتقي أول ما نلتقي بهما في آخر حكاية " مزين بغداد" (ص ١۲۱،١٢٣ – ج١)  هناك بدلا من قفة نرى الشقيق السادس للمزين الفضولي الثرثار و اسمه " شقالق" فقيرا جائعا يتسول وجبة طعام , حتي إذا رأى قصرا عظيما قيل له أدخل و اطلب حاجتك من صاحبه و هناك يُرى ( بذرة ) التبريزي الذي لا نجد له في الحكاية اسما , إنما هو إنسان حسن الوجه ذو لحية جميلة من أولاد الملوك , اتخذ السخرية بأصحاب المزاج و المجون متعة له بأن يدعوهم علي مائدة وهمية فيها كل ما لذ و طاب من أطعمة و شراب و لكنها جميعا أطعمة و أشربة لا وجود لها , و يقع " شقالق" في الفخ و يشتد به الجوع و هو يستمع إلي أسماء كل ما يشتهيه من أطعمة و يرى مضيفه المستهزئ يحرك شدقيه كأنه يأكل فيجاريه عساه أن يطعمه بعد ذلك , و ظنا منه أن ما يفعله صاحب القصر ليس إلا مزحة بريئة , حتى إذا اكتشف أنه كان فريسة استهزاء و امتهان ماجن, فيقرر الانتقام لنفسه.
و تجيئ الخمر الوهمية إلي المائدة الوهمية و يتظاهر شقالق بأنه قد سكر و فقد و عيه فيرفع يده و يصفع صاحب القصر علي رقبته .. فإذا هاج صاحب القصر و غضب , اعتذر شقالق بأنه قد سكر و فقد صوابه و عربد علي مضيفه الكريم .. و يضحك الأمير الماجن و يكافئ شقالق مكافأة جزيلة بأنه سوف يطعمه و يسقيه و يكسوه ثم يتخذه نديما و رفيقا مدى الحياة و هنا تختفي ألف ليلة و ليلة بذرة التبريزي فلا تظهر إلا في حكاية ( معروف السكافي ),
أما شقالق فيفقد معناه بالنسبة لقفة الجديد بعد موت نديمه الكريم فلا يعنينا أمره بعد ذلك . و في حكاية معروف الاسكافي ( ص ٢٢٨ إلي آخر ج٤ ) نرى التبريزي في رحلته العجيبة إلي الصين و لكنه في ألف ليلة و ليلة , يصل إلي المدينة التي تبعد عن مصر بمسيرة عام في ليلة واحدة علي ظهر عفريت .. فإذا وصل معروف - التبريزي - إلي المدينة التقى صدفة برفيقه القديم , كان قد هرب منذ زمن بعيد و لجئ إلي هذه المدينة حيث أصبح تاجرا ثريا و يقوم هذا التاجر لمعروف مقام قفة للتبريزي في المسرحية ... إلا أنه في ألف ليلة يقوم لحساب معروف بعملية نصب حقيقية فيمنحه ألف دينار و يكذب علي التجار زاعما لهم أن معروف الاسكافي الفقير إنما هو تاجر مصري فاحش الثراء و أن ( حملته ) أو قافلته قد تأخرت , و لكن معروف لا يتصرف تصرف التجار , و إنما تصرف الكرماء , أو السفهاء كما يرى رفيقه الذي مهد له الطريق . فيبعثر دنانيره الألف و فوقها ستون ألفا أخذها من التجار , يبعثرها علي الفقراء و المتسولين و المحتاجين .. و مثل التبريزي يحطم معروف جوهرة الملك في احتقار , و يعده أن يردها إليه و أن يرد ديونه إلي التجار اضعافا مضاعفة حينما تصل حملته . و يتزوج معروف ابنة الملك , و يلوح عليه أنه قد صدق الأكذوبة التي اخترعها صديقه القديم عن وجود حملة وهمية في طريقها إليه؛ فيخشى الصديق الغادر علي نفسه مغبة تصرفات معروف و يحرض عليه التجار . و لما يعترف معروف لابنة الملك بفقره و كذبه تدفعه إلي الفرار بعد أن تهبه مالا كثيرا علي أن يعود بعد أن يرزقه الله   بالربح و الثروة , و لكن معروف يعثر في الطريق علي كنز " شداد بن عاد " و يعثر مع الكنز علي خاتم شبيه بخاتم سليمان يخدمه جني .

  و بالطبع تتحول كل أكاذيب معروف إلي حقائق بفضل هذا الجني , فيعود إلي المدينة في موكب امبراطور حقيقي , و يغرقها بالخير و الذهب و الجواهر من متسوليها إلي ملكها .

  هاتان هما القصتان اللتان عثر فيهما ألفريد فرج - كما يقرر هو- علي التبريزي و قفة , إنهما موجدان في الحكايتين في تفاصيل كثيرة , فكيف صهرهما المؤلف المعاصر ليحيلهما إلي سبيكة خالصة النقاء و الجدة؟ و ماذا كان الخيط الذي ضمهما في عقد واحد؟

  هنا يبرز دور حكاية " الجراب" الذي اختصم عليه مالكه العجمي مع مدعيه الكردي الظالم الكذاب . فقد أخذ الكردي يصف أمام القاضي ما هو مالك له داخل الجراب , و يغتاظ العجمي و يندفع هو الآخر في وصف ما بداخل الجراب ليثبت ملكيته له , فإذا بالجراب يضم عالما بأكمله بمدنه و قراه و أناسه و حيواناته و حروبه و منازعاته . و ينتهي كلام الخصمين بتهديد العجمي للقاضي بأن في جرابه أيضا :" ألف موسى ماض تحلق ذقن القاضي إن لم يخش عقابي و يحكم بأن الجراب جرابي " حتى إذا فتح القاضي الجراب ساخطا لم يجد فيه غير " خبز و ليمون و جبن وزيتون" ثم يرمي العجمي - مالك الجراب الحقيقي- بجرابه و ما فيه أمام خصمه المدعي الظالم و يمضي.

  لقد حكيت هذه الحكاية فى ألف ليلة لتسلية الخليفة هارون الرشيد فى ليلة جفا المنام فيها عيونه , و حكاها شخص يحفظ الكثير من .. ( الحكايات و الأخبار ) استدعاه الوزير خصيصا ليسلى الخليفة فى ليلته المؤرقة . و إذا كان المؤلف الشعبى , العبقرى الأول مؤلف ( ألف ليلة ) قد كان ابنا لعصر لا يستمتع فيه الفن إلا بمكانة التسلية , و لا الفنان إلا بمكانة النديم المسلى , فإن ألفريد فرج , ابن لعصر يتطلب من الفن و الفنان أشياء أخرى غير مجرد التسلية . و إذا كان المؤلف الشعبى قليل الحرص على عظمة دوافع تقديم فنه للناس أو علىمنح هذا الفن ظلالا فكرية أو رمزية أكثر عمقا من سطحها البراق المباشر , فإن المؤلف المعاصر يعرف كيف يحمل كلماته و شخصياته و مواقفه بهموم عصره الفكرية و بما يطلبه هذا العصر من الحياة و الفن جميعا . لقد اكتشف ألفريد فى حكاية الجراب صورة نموذجية لشهوة التملك و بصمتها الغائرة فى النفس البشرية من ناحية , و جموحها الذى لا يقف عند حد معين و من الممتلكات من ناحية أخرى . لقد أصبح النزاع التافه على ملكية جراب رخيص  و ما يحويه من نوافل زهيدة رمزا لفكرة الملكية ذاتها و رمزا للصراع البشرى الأبدى على امتلاك الأرض كلها و ما عليها , و أصبح ( الجبن و الزيتون و الخبز و الليمون ) مدنا و قلاعا و حصونا و سباعا و عبيدا و سلاحا و مغانى و أفراحا .

  إن العجمى و الكردى المختصمين على الجراب يكملان شقالق المماحك الذى يستجدى وجبة طعام ثم لا تهون عليه نفسه حينما يجدها فريسة للامتهان فيصفع من كان يستهزئ به و من كان هو يطمع في كرمه , و الثلاثة يكملون التاجر " علي" صديق " معروف الاسكافي" , الذي اخترع لمعروف كذبة    " الحملة" ثم خاف علي نفسه و حقد علي معروف مكانته فعاد و حرض عليه .
وهؤلاء جميعا يشاركون في صنع قفة تابع التبريزي في المسرحية.. لكنهم جميعا لا يصنعون إلا " نصف" قفة في الحقيقة. ذلك أن قفة هو أيضا" كافور"
, فقد أصبح قفة هو كافور بعد أن علمه التبريزي و غير اسمه و حرفته و لقنه وصاياه بعد العشاء الأخير و إصطحبه معه يخوضان التجربة معا في أقصى الأرض. إن قفة ليس مجرد العجمي المالك أو الكردي الطماع أو شقالق الجشع أو التاجر النمام , و ليس هو مجرد حاصل جمعهم جميعا . ذلك لأن أيا من هؤلاء لم يكن قد قابل التبريزي أو تعلم منه , مثلما قابله قفة و تعلم منه . إن فيهم من قفة . و ذكاءه و حرصه و طمعه و دقته و جشعه و نميمته و ضعفه, و لكن أيا منهم لم يحمل حبا مثل الذي حمله قفة للتبريزي و لا حلما مثل الذي غرسه التبريزي في خيال قفة , و لا كان يمتلك خيالا و لا يتمتع بقدرة علي الكرم مثل خيال قفة و قدرته علي الكرم بعد أن دربه سيده الخيالي الكريم!..

  لقد اكتشف ألفريد في هؤلاء الأربعة ذلك  الجانب العملي أو الدنيوي الحسي من الشخصية الإنسانية البسيطة في تراثنا , و اكتشف مع هذا الجانب حرص هذه الشخصية علي كرامتها و حرصها علي الثأر لنفسها , و حرصها علي حقها و دفاعها المستميت عنه في وجه الظلم و لو اضطرت أن تلجأ إلي الخيال  أو إدعاء الجنون , ثم زهدها فيه و احتقارها لشأنه , لا تعاليا علي تفاهات "الدنيا" أو استنكافا من التمسك بها و إنما لإظهار احتقارها لمن ينافسها علي هذه التفاهات أو يزاحمها عليها , و إن كانت لا تستنكف أن تتحول إلي شخصيات تابعة لمن يملك نفس هذه التفاهات و يبدي استعدادا للتفضل بها عليها. إن هذا المزيج من الحرص و الاستكبار و الجشع هو الذي يشكل نصف قفة : النصف الذي وجد ألفريد خاماته جاهزة في ألف ليلة , أو هو النصف الذي سلمه التراث للمؤلف العصري , مصنوعا منعصارة هذا التراث الذي تعلمه الفقراء لمواجهة مصاعب حياتهم المحدودة الفقيرة. أما النصف المخلوق الذي أبدعه المؤلف العصري فهو الذي يستكمل قفة , و يحيله إلي إنسان جدير بالاحترام و الحب بعد أن كان مجرد صعلوك يستثير الرثاء و الشفقة. فالفهلوة تستكمل بالشهامة : " أنت دعوتني إلي مائدتك بنية صادقة و أكون لئيما إن لم أرد لك الدعوة " كما يقول قفة للتبريزي بعد أن اكتشف فقر مضيفه "الصعلوك الأمير" و جوعه . و الحرص يستكمل بالصدق :" والله إن مائدتك هذه أشبه بمائدة المصائب التي مددتها لك أول دخولي عندك " , كما يعترف قفة للتبريزي أيضا بعد أن تحولا إلي صديقين يعزمان الرحيل معا . و الاستكبار يستكمل بالتلقائية البسيطة :" أيها السادة, بدل الشجار أسرعوا بالفطار . سيدي أضعفه و جوعه السفر . جيئونا بخبز رقيق أبيض , بياضه حقيقي يُرى بالعين" , مثلما يصرخ قفة تحت وطأة جوعه الذي لم يعد يحتمله بعد أن جاهد طويلا في سبيل تحقيق حلم سيده . و الجشع يستكمل بالخيال الذي لا حساب فيه و بالندم و بالحب : " آه من اللي سيجرى لي . سأعيش طول حياتي أندم. لا بد من حل. والله أحببته هذا السيد. أحببته جدا", كما يقول قفة لنفسه و هو يرى صديقه و سيده مقيدا في السوق تمهيدا لقتله بسبب نميمة في نفسه .

  و إذا كانت الكوميديا في ألف ليلة تقدم لكي تسلي الأمراء بفكاهتها في لياليهم المؤرقة , و إذا كانت تستولد هذه الفكاهة من خلال السخرية بالفقراء و أحلامهم و فهلوتهم و حرصهم و استكبارهم و جشعهم , فإن الكوميديا عند ألفريد فرج تتقدم لكي تحيل الابتسام إلي وسيلة لفهم الحياة و الإنسان و لا تستولد إلا من خلال هذا التكوين الإنساني الخصب المليء بالمتناقضات الحقيقية بين الفهلوة و الشهامة , و بين الحرص و الصدق و بين الاستكبار المتعنت و التلقائية البسيطة و بين الجشع الأناني ضيق الأفق و الخيال و الندم و الحب . الآن أصبح لهذه الشخصية الموروثة " الهزأة" عمقها الإنساني الواقعي و أصبح لها معناها الأكثر اتساعا و صدقا من المعنى الساذج الذي كفله لها التراث تحقيقا لأغراضه المحدودة بمتطلبات عصره و احتياجاته.
و لذلك فقد أصبح لهذه الشخصية الحق في أن توجد من جديد بعد أن أضافت إلي ملامحها المستمدة من الماضي  ملامح الحاضر أيضا حاملة صدق الزمنين معا و حقيقتهما .

فمن هو التبريزي إذا, الذي علم قفة الحب و الحلم و الخيال و الكرم؟

  لم تكن بذرة التبريزي  في " مزين بغداد" إلا إنسانا من أولاد الملوك يسلي  نفسه بالسخرية من الفقراء أصحاب المزاج و المجون . حتى إذا لقي هذا الإنسان ماجنا ذكيا يحسن أن يضحكه كافأه بأن يجعله له نديما يسليه و يجالسه طيلة حياته. فإذا وصلنا - في ألف ليلة - إلي " معروف الاسكافي " , وجدنا رجلا فقيرا هاربا من زوجته الشرسة و ظلم الحكام إلي مدينة بعيدة علي ظهر عفريت – و هناك يستخدم خبرته بالحياة : فالأغنياء وحدهم هم القادرون علي إكتساب الاحترام و هم لا يحترمون إلا إذا أنفقوا المال دون حساب و أغدقوه علي كل إنسان فقير أو غني مستحق له أو غير مستحق . معروف في ألف ليلة يتظاهر بالثراء لعلمه بميزة الأثرياء لكي يحصل لنفسه فعلا علي هذه الميزة , و يتظاهر بالكرم لعلمه بما يجلبه الكرم لصاحبه من سمعة حسنة . إنه نصاب حقيقي يسعفه الحظ .. و إذا كان المؤلف الشعبي يجسد في معروف أخلاقيات عصره و مثلها فأنه لا ينسى أن يسخر من الأغنياء و من الغنى جميعا و كأنما يقول أن معروف الفقير تحول إلي ثري مرموق و تزوج أميرة بالاحتيال و النصب علي الأغنياء أنفسهم حينما يمنيهم بأن يزيدهم غنى و ثروة .

  في حكاية " المائدة الوهمية " و هي جزء من حكاية " مزين بغداد " – كان صاحب المائدة , بذرة التبريزي رجلا ثريا فعلا , و لكنه كان إنسانا قاسيا ساخرا من ضعف الفقراء و مهانتهم , كريما يشتري بكرمه تسلية نفسه علي حساب إنسانية إنسان آخر . و في حكاية " معروف الاسكافي " كان التبريزي فقيرا لا يأنف من أن يسلك سلوك الأغنياء لكي يصبح غنيا و حسب , و ليحدث بعد ذلك ما يحدث .

  و يأتي المؤلف المعاصر لكي يجرد صاحب المائدة من ثروته و قسوته جميعا , غنيا فقد غناه ثمنا لطيبات الحياة علي مدار الزمن , لا يهمه المال و إنما تهمه التجربة و المغامرة و الاستمتاع بالحياة نفسها . و يمزج المؤلف المعاصر بين مرح صاحب المائدة  و خياله و بين ذكاء معروف و قدرته علي إيهام الآخرين و تصديق وهمه بنفسه اعتمادا علي تجانس تكوين الشخصيتين النفسي و قدرتهما علي التخيل.. " و إيهام النفس و الغير باقتدار بوجود ما هو موجود في الواقع ".إن طيبات الحياة هي الشيء غير الموجود في واقع الفقراء, و مع ذلك فهي موجودة ( علي مائدة أخرى في المدينة ) و لكنها ليست مائدتهم. و هم ليسوا من الجشع بحيث يحلمون بأن يستأثروا بها لأنفسهم وحدهم. و إنما يحلمون بأن ينالوا منها حظهم و أن يوزعوها علي الناس جميعا بالتساوي . و هكذا تتحول قسوة صاحب المائدة إلي رغبة حقيقية في العطاء,  و تتحول رغبته في امتهان شقالق إلي رغبة في إيقاذ إنسانية قفة و تعليمه كيف يحب و يحلم و يتخيل و يعطي . و هكذا تتحول أكذوبة معروف و يتحول نصبه إلي حلم نبيل يحمله التبريزي إلي أكثر مدن العالم ثراء لأن أكثرها شحاذون و فقراء , لكي يحكم الحلم بالعدل و الرخاء و الحب هذه المدينة العملية القاسية التي يحكمها الظلم و البغضاء . و هكذا يحصل التبريزي علي ملامحه العصرية - إلي جانب الجزء الإنساني من ملامحه القديمة , الجزء المعبر عن المرح و الطموح و الثقة بالمستقبل  و ملكة الخيال - يجمع التبريزي بين هذه الملامح لكي يصبح صالحا لأن يحمل رسالة عصره  الجديد الذي جذبه إليه مكتشفه و خالقه المعاصر , رسالة الحلم النبيل بالعدل و المشاركة و الإيمان بالعمل و العقل و القدرة علي تحقيق الملكوت الوهمي الذي لا يمكن لغير العمل الإنساني أن يحققه .

  و إذا كانت الكوميديا تستولد في ألف ليلة من خلال تنازل صاحب المائدة ,   ابن الملوك القاسي إلي إكرام نديمه الفقير, و إذا كانت هذه الكوميديا تستمد فكاهتها - في حكاية معروف الاسكافي - من خلال إعجاب القراء بهذا الفقير الذي يثأر من الأغنياء باستغفالهم و ابتزاز أموالهم و الزواج من ابنة ملكهم      - إذا كان هذا كله صحيحا - فأن الكوميديا عند المؤلف المعاصر تستولد من خلال قدرة صاحب المائدة علي الحلم , و علي زرع الحلم النبيل في قلوب تابعيه , و علي الوقوف دائما عند الحافة الفاصلة بين الخيال و الحقيقة, و الصدق و الكذب , و الإيهام و التزييف, و التلميح و التقرير . الكوميديا تنطلق عند ألفريد فرج - في شخصية التبريزي- من خلال شاعرية هذا الإنسان ونبله و إصراره علي التصادم مع كل ما هو حسن و مبتذل و رخيص في حياته و حياة تابعه و حياة الناس.  ساعتها تنطلق شرارة الفكاهة المحملة بالسخرية الكاشفة للحقيقة , و ليست الفكاهة الغليظة الجارحة لإنسانية الناس في ألف ليلة.

  و إذا كانت الخاتمة الكوميدية التي تأتي لتحل أزمة معروف بعد أن يهزمه الأغنياء و يضطرونه إلي الفرار , إذا كانت هذه الخاتمة لا تأتي إلا بتدخل قوة غير بشرية فأن المؤلف العصري يختار طريقا آخر . إنه طريق الفعل الواقعي و مراقبة الواقع الحقيقي الذي صنعه الإنسان . المؤلف المعاصر يستطيع أن يقرر ببساطة أنه لا قافلة هناك .. و يحل الأمل الإنساني و توزيع الثروة بالعدل و العمل الإنساني الجديد محل الجني في ألف ليلة , فقد خلق الأمل في وجود القافلة , مع عطايا التبريزي الباذخة التي أخذها من الأغنياء و  وزعها علي الفقراء , مع عمل الفقراء في دكاكينهم الجديدة , خلقت كل هذه العناصر الجديدة رخاء مماثلا لذلك الرخاء الذي أحدثه الجني في ألف ليلة . إن الأمل و العمل و العدل القادرين علي تحقيق ما لم يكن ممكنا إلا بالسحر في الزمن الماضي. و العقل الإنساني نفسه , و العلم ثمرته , هذه الجوهرة الدقيقة التي لا تتجزأ هي التي تملك السيطرة علي ألوف الشياطين و المردة و الأعوان و العفاريت , أو علي ما كانوا يملكونه من قدرات و طاقات في ألف ليلة, و هي القادرة علي أن تسبغ السعادة علي البشرية إذا ملكتها الأميرة الطيبة المحبة, أو علي تدمير كل مصادر الخير إذا ملكها الوزير الشرير .

  فالكوميديا في مسرحية " التبريزي و قفة " ليست مجرد اللحظة الفكاهية و إنما هي شأنها في ذلك شأن كل عنصر ذهني في الكوميديا كلها – الإدراك المتفائل بالحياة , الساخر من إمكانية حل مشاكلها ببساطة في نفس الوقت . إن الكوميديا لا تتركنا مستريحين علي أنفسنا , و إن استرحنا علي مصير أبطال المسرحية .
   و إذا عدنا إلي حكايات التبريزي و قفة الأصلية في ألف ليلة , حكايات المائدة الوهمية و الجراب و معروف الاسكافي , لاكتشفنا - بعد قراءة المسرحية أيضا - كيف استخلص ألفريد لغته المسرحية و حواره نفسه من الحكايات ذاتها . فنحن نلاحظ علي الحكايات الثلاث أنها تحتوي علي عناصر حوارية واضحة , لا تكتب في صورة حوار مباشر كما تكتب المسرحيات , و إنما يستعيد الراوي الذي يفترض أنه يعرف الحكايات كلها و يحكيها, أو أنه - المؤلف نفسه - يستعيض هذا الراوي عن الحوار بكلمات " فقال " أو " فقلت"  أو " فأجاب" .. إلخ . و في مقاطع كاملة من مسرحية التبريزي و قفة , نلاحظ كيف يزرع ألفريد هذه الكلمات التي تتطلبها عملية " الحكي  " أو السرد و استفاد مما يأتي بعدها ليضعه علي أفواه الشخصيات مباشرة , الأمر الذي تتطلبه عملية التجسيد المسرحي .

  يقول سامي خشبة في مقاله ( المسرح من أجل المستقبل )* عن مسرحية    " علي جناح التبريزي " : " أعترف أولا أن تفسير هذه المسرحية و تفسير معنى بطليها الحبيبن لم يعد يهمني , بعد أن شاهدتها مرة واحدة , و قرأتها مرات عديدة , و بعد أن كتب عنها النقاد كل ما كتبوه , و لكنني أعترف - مرة ثانية - أن تأمل وجه التبريزي ثم تأمل وجه قفة اللذين فتناني من اللحظة الأولى , و أن رجعتي لتأمل وجه معروف الاسكافي – التبريزي الأصلي في ألف ليلة , أو وجه شقالق شقيق أبي الفضول الحلاق الذي أكل علي مائدة وهمية قبل أن يجلس قفة علي مائدة مثلها بزمان طويل , أو وجه العجمي صاحب الجراب العجيب الذي لا قرار له , و الذي كان في ألف ليلة مع خصمه الكردي الظالم مجرد " بروفيل " واحد لوجه قفة المتلون المتغير عند ألفريد .. أعترف أن ذلك التأمل و هذه الرجعة هما اللذان يدفعاني إلي التساؤل  عن المعنى في مسرحية  التبريزي و قفة؟ "

الوظيفة
  من الجلي الواضح أن فكرة المسرحية لم تقم علي التسييس و إنما قامت علي العدل الاجتماعي,  و لعلها قد وضحت بشكل جلي من خلال الحوار الذي يعد الأداة الرئيسية التي يبرهن بها الكاتب علي فكرته و يكشف بها عن شخصياته و يمضي بها في الصراع.

  فها هو التبريزي يحدث نفسه معاتبا ( قفة ) الذي يطالبه بالعودة إلي الحقيقة و نبذ فكرة القافلة القادمة .
علي : ( العجيب أن هذا الولد الاسكافي لا يؤمن بالفلسفة و بأن العقل لا يخلق شيئا من لا شيء , تماما كما أن الاسكافي لا يصنع نعلا إلا بمادة الجلد .. و قد رأى بنفسه أن هذه القافلة لم تصل بعد .. صنعت رخاء في المدينة ملموسا و محسوسا , و تسببت في صنائع كثيرة , يلبس الناس منها ملابس مادية , و يأكلون و يشربون .. كزواج أثمر أجنحة حقيقية .. فكيف بالله يصنع اللاشيء شيء , كيف يتسبب غير الموجود في وجود الموجود بالمادة و تراه العين و تسمعه الأذن و تلمسه اليد , كل هذا و لم تصل القافلة بعد , في بالك عندما تصل ؟ صدق أو لا تصدق , أنا أصدق . ) انظر النص .

  لقد أراد (ألفريد) أن يتحدث عن قيم و عدل.. أراد أن يخلق فكرا إشتراكيا من خلال بطله( التبريزي ), و لكنه فشل , فهو لم يخلق هذا البطل الذي يصارع النظام الرأس مالي و لم يخلق نظاما إشتراكيا .. بل خلق لصا ظريفا يحتال علي الناس , فأين كان هذا الأمير الذي أنفق أمواله علي الملذات .. أين كان الفقراء منه ؟! و لماذا إذا فرضنا بأنه قد شعر بهم عندما افتقر و أصبح مثلهم و غير مفاهيمه و أخذ من الغني و أعطى للفقير بهذا المفهوم الإشتراكي .. فلماذا هرب من ساحة العدل و العدالة و لم يبقى ليدافع عن قضيته و يدافع عن فكرته.. لقد هرب هو و قفة و الأميرة و الجارية بعد أن باع الوهم للباقين .. إذا لا يوجد إشتراكية و لا يوجد رجل ينادي بالعدل لأنه لم يواجه سلطة رأس  المال برأيه و فكره .. فقط كان هناك خليطا للّص الظريف و الأمير الصعلوك.. بطل ألفريد يتصرف كمحتال لأنه لم يخلق نظام بعده .. و لم يدافع عن فكره الإشتراكي لأنه بهروبه أنهى مفهوم الإشتراكية التي أراد ترسيخها في وظيفة المسرحية الاجتماعية التي أراد أن يؤكد من خلالها علي عدالة التوزيع و إلغاء الطبقات .

  إن ( ألفريد فرج  ) يحاول أن يجيب عن تساؤلات علقت في ذهنه و شغلته مثلما شغلت الإنسانية جمعاء  من زمن بعيد و هذه الانشغالات هي :  تحقيق العدل و تخصيص ميزانية لرفاهية الإنسان .

  و هكذا تم اختيار البطل الذي يحرك الأحداث .. شخصية حالمة تتصور أحلامها حقيقة إلي حد الخلط بين ما هو حقيقة و ما هو حلم . هذا الأمير الثري الذي أنفق أمواله في الملذات فأفلس و انطلق يحيى حياته كلها في تصورات و أحلام يتطلع بها إلي مستقبل أفضل و أزهى و أجمل, مستقبل يتمنى أن يتحقق, بل جعله يتحقق بينه و بين نفسه و مع صديقه ( قفة ) .

  ترى هل عدل التبريزي وهم هو الآخر و مجرد حلم من أحلامه التي لا حدود لها ؟! قد يكون .

علاقة المسرحيتان بالتراث
  لم يتخلى المسرح العربى عن الليالى كمصدر تراثى غنى منذ بدايته و حتى وقتنا الحاضر , فلقد اتخذ الفن المسرحى عند العرب من موضوعات التراث مسلكا للتعبير فشاع بين الجماهير التى تستلذ السمع و الإستماع أو قراءة المأثورات و الشخصيات التاريخية و الشعبية لذا كان دور الحاكى أو الراوى دورا مهما فى المسرح العربى منذ تكوينه و نشأته .

  و المسرحيتان المشار إليهما ( على جناح التبريزى ) لألفريد فرج أو ( الملك هو الملك ) لسعد الله ونوس مستلهمتان من التراث و لكنه ليس استلهام حرفى كما فعل مارون النقاش لاستلهامه (لأبى الحسن المغفل) فهذا الاستلهام الحرفى هو بمثابة مسرحه للتراث لا أكثر أما فى ( على جناح التبريزى ) فقد وظف ألفريد التراث و خلق شخصيات على , و قفة من خليط من شخصيات الليالى.. فهو ملتزم بالقص كما فى الليالى مع التغير قليلا فى الشخصيات و الأحداث .

  و لكننا إذا نظرنا سنجده قد أخذ المصدر من الحكاية الأصل و بنى منها شخصياته , و وظفها لتخدم عناصر الحكاية الجديدة و توظيف الليالى هنا هو إعادة صياغته و انتاج نص جديد شخصياته قادمة من مجتمع الليالى و لكنها متأقلمة متعايشة مع ما نحمله من هموم و أفكار .. و قد أخذ نص ألفريد من الليالى الأحلام - تناسل الحكايات- و كلها أشياء مستقرة فى وجدان المجتمع   العربى من خلال ثقافته الشعبية . فالحكاية فى على جناح التبريزى تنتقل من حركة إلى حركة فى شكل ساخر مسلى .
 و بالنسبة ( للملك هو الملك ) لسعد الله ونوس فقد نقل مسرحيته فى مساحة جديدة للتعامل , فهو لجأ إلى الثلاث عناصر للأخذ عن الليالى ( المسرحية – التوظيف و التأصيل ) فلقد اعتمد المؤلف على تراث الحكاية الشعبية ( أبو الحسن المغفل ) مطلقا لخياله العنان .. ليخلق فكرا جديدا و هو الإفادة من الموروث الشعبى لترسيخ شكلا مسرحيا جديدا فى مسرحنا العربى و هو مسرح التسييس القائم على فكرة ربط ما يقدمه المسرح بالسياسة . و قد رأى ونوس فى حكاية ( أبو الحسن المغفل ) مادة نشطة تستطيع أن تعينه على ما يريد تفجيره من قضايا تمس الواقع السياسى الراهن و الذى تستطيع أن تطبقه فى كل عصر و هو أن تغير الملك ليس هو القضية بل تغيير النظام السياسى , فأى انسان يملك عباءة و صولجان سوف يصلح لأن يكون ملكا فى ظل نظام فاسد كما حدث مع ( أبو عزة المغفل ) .

  فالملك مجرد وعاء خاصة إذا كان الناس لا ينظرون إلى وجوه ملوكهم . و هذه هى مأساة الناس . أن صورة الملك هى صورة الملك لأن الشخص لا يهم, فالعباءة تستطيع أن تضع فيها أى شىء .

  و هكذا نستطيع أن نؤكد على أن مسرحية ألفريد, فرجة هدفها الامتاع و التسلية الساخرة , و قد نجح فى توظيف التراث بها .. أما مسرحية ونوس فهى فرجة أيضا لأن مسرحنا العربى يقوم على فن الفرجة و لكنها فرجة تثير قضايا سياسية .. تحرك الأفكار و تغيرها إن أمكن , و هذا هو هدف ونوس خلق الوعى السياسى لدى المشاهد , و بالطبع هو يقصد الشعب و ليس طبقة الحكام لأنهم داخل الدائرة و النظام الفاسد .

المراجع

- الملك هو الملك                   ( مسرحية )                 سعد الله ونوس

- على جناح التبريزى             ( مسرحية )                 ألفريد فرج

- بناء الشخصية فى                ( كتاب الثقافة الجديدة)    الهيئة العامة
مسرح ألفريد فرج                      ( عدد ٢ )               لقصور الثقافة

- مجلة تراث المسرح              ( سبتمبر ٢٠٠٢ )        مجلة فصلية
                                                                  يصدرها المركز القومى                                                  للمسرح و الموسيقى و الفنون الشعبية


- مجلة آفاق المسرح               ( العدد السابع عشر )   الهيئة العامة لقصور                                                                              الثقافة 
- مجلة فصول                     ( ألف ليلة وليلة – الجزء الثانى)                                           المجلد الثالث عشر – العدد الأول – ربيع  ١٩٩٤