المسرح وعبقرية النديم


المسرح وعبقرية النديم
                                           هالة فهمي



هل يعد عبد الله النديم عبقريا ؟
هذه الإجابة تتوقف على تعريف العبقرية كما عرفها د.أحمد عكاشة في كتاب ( تشريح الشخصية المصرية ) حينما أكد أن العبقرية هى معدلان الذكاء والقدرة على تغير المجتمع.. فالعبقرية هى محاولة لتخليص المجتمع من بعض المتناقضات في أحد ميادين النشاط الإنساني وإذا تحدثنا عن العبقرية الفنية والأدبية تحديدا سنجد أن العبقرية الفنية في جوهرها الإجتماعي ماهى إلا محاولة للتغلب على التناقض القائم في أمور التذوق والقيم الفنية للأشياء .. أى إحداث تغيير في أذواق الناس وفي وجدانهم.

ولقد اعتبرت النديم عبقريا لأنه حرص على تقديم انتصاراته للإنسانية في مجالات شتى. والعبقرية نفسها درجات .. أعلى درجة فيها تصل للجنون وهذا ليس مجالنا ولا مكانه .. إنما نتحدث عن العقل المتميز الناقد الذى يترك بصمته على هيكل البشرية ويحفر اسمه داخل وجدانها وهذا ما فعله النديم بتعدد موامبه ويمكن أن ندرك ذلك من خلال سماته ومزاجه وذكائه وشخصيته :
-       إما بطريقة ارتقائية من الطفولة إلى مراحل عمره المختلفة.
-       وإما بدراسة عملية لجغرافية الشخصية المزاجية وتعامله مع الآخرين.
-       وإما بالقياس التدريجي لأعماله وانجازاته.
وقد أكد د. عبد المنعم الجميعي في كتابه ( الندم المناضل الثائر) أن النديم لم يعط حقه في الدراسة لأن الدراسات أهتمت بالثورة العرابية وزعيمها أحمد عرابي مما طغى على دراسة شخصية النديم الذى كان يمثل هذه الثورة في نواحيها المتعددة فكان الداعية الأكبر لها وخطيبها الذي مهد لها ووقف معها في أحلك الظروف .. وقد تنوع عطائه بين إنضمامه للعسكرين ودوره في حادث قصر عابدين ومظاهرة عابدين ، ثم تشجيعه على انشاء جمعية الشبان بالأسكندرية لتكون ركيزة للثورة ، ثم مرحلة نفيه وعفو الخديوى عباس الثاني عنه .. لكنه عاد لمزاولة الكفاح مما جعل الاحتلال يشعر بخطورته فطاب الخديوى بنفيه ثانية فتخلى عنه الخديوى.
ثم بدأت رحلة هروبه ومناداته بفكرة القومية ومبدأ "مصر للمصريين" والوحدة الوطنية .. وتجيشه للعقل المصرى لفكرة الجمهورية .. وقد استطاع النديم نشر هذه الآراء في عدد كبير من ابناء الوطن.
لم تتوقف انجازات هذا المناضل عند العمل السياسى فقط وإنما حرص على أن يكون له دور في الإصلاح الإجتماعي أيضا .. فكان يحارب الشعوذة والمشعوذين، والإحتيال والكذب والخرافات والبدع وتقليد الأوروبين ومحاكاتهم دون وعى وخاصة في القمار والخمر والدعارة .. ومحاولته نشر وعى العدالة الإجتماعية.
وقد جاهد النديم في رافد آخر وهو الإصلاح التعليمي بشقيه المدني والأزهري ودافع عن اللغة العربية وتصديه لكل من حاول المساس بها وخاصة مع انتشار لغة المحتل ومحاولته لتغيير اللسان المصرى من العربية إلى لغته كما حدث في دول أخرى.

مهارات النديم الأخرى:

برز النديم خطيبا مفوها وعمل في مجال الصحافة والمسرح بالإضافة للرؤية البانورامية التي قدمتها حول حياته وتنوع انجازاته وثقافته .. فإذا ما عدت إلى سماته وأسباب تميزه والتقسيم الذى ذكرته وهو تكوينه في مراحل حياته فقد ولد النديم بالأسكندرية في عام 1843  ميلاديا وقد نشأ في أسرة كادحة فقيرة، فوالده خباز بسيط تربى ،النديم على الكفاف مما جعله يشعر بآلام الناس ، تعلم في كُتاب الحي وحفظ القرآن في سن التاسعة ولفقره لم يذهب للأزهر فدرس في جامع (الأنوار) الفقه والتوحيد والمنطق والعلوم اللسانية والنحو والصرف .. ثم خرج للشارع بعد ذلك وهناك كانت جامعته وحياته الواقعية فأغترف من الأدب ونوادر الظرفاء .. ارتاد المنتديات التى كانت تقام في بيوت الأثرياء وفي محلات التجار المحبين للأدب .. ثم ترك الأسكندرية وجاب القرى والمدن.
تنوعت اعمال النديم فمن عامل تلغراف في بنها إلى حياة القصور عندما عمل موظفا في قصر خوشيار خانوم والدة الخديوى إسماعيل مما جعله يقارن بين حياة الشعب من بؤس وشقاء وفقر  وبين الأغنياء من ترف وبذخ وبهرجة.. مما كان له أثر كبيرفي كتاباته . ومن هنا نتسلل للكتابة المسرحية عند النديم.
عرف عن المسرح أنه أبو الفنون وأن العمل به يحتاج إلى ثقافة متنوعة، فليس كل مبدع قادرا على الكتابة المسرحية التي تستفيد من كل الفنون كالقصة والرواية والشعر والفن التشكيلي .. انه عمل شامل سواء في الكتابة أو في تحويله إلى لعبة مسرحية تمتع المشاهد.وقد عرف النديم العمل المسرحى بأنه: (فن بديع يقوم على تهذيب وتوسيع أفكار الأمم.. وإخبارهم عن الوقائع التاريخية والتخيلات الأدبية وهو يقوم مقام استاذ يقف أمام تلامذته يلقنهم العلم بما تألفه نفوسهم وتميل إليه طباعهم .. وقد رجع هذا الفن إلى العرب منذ القدم ثم نقله عنهم الأوروبيون عند مخالطتهم لهم في الأندلس والشام)*
وقد اختلف د. عبد المنعم الجميعي  مع هذا الرأى مؤكدا ( أن العرب لم يعرفوا فن المسرح والتمثيل منذ القدم .. وإنما ما يقصده النديم هو: المنشدين والمغنين أو روايات ابن دنيال الموصلى المسماه بطيف الخيال أو خيال الظل كما اسماه المصريون واسماه السوريون الكركوز. وإنما يعتمد النديم نظرية تعيد كل شئ إلى أصول عربية واعتبار الشرق معلم أوربا وإليه يرجع الفضل في نهضتها )*
ويؤكد " الجميعي" أننا لم نتوارث المسرح لا عن الفراعنة ولا العرب فمجتمعنا لم يعرف الأدب المسرحي إلا بعد أن اتصلت مصر بوسائل الغرب الحضارية اتصالا وثيقا.
ورغم أن النديم لم يتقن أى لغة أجنبية ليستطع بها الإطلاع على المسرح الأوروبي فإنه استطاع أن يكسب قدرا من الثقافة المسرحية عن طريق مشاهدته لمسرحيات "يعقوب صنوع" كما تأثر بالفرق الشامية التي وفدت مصر وخاصة فرقة "سليم النقاش" التي عرضت الكثير من أعمالها على مسرح زيزينيا.
وقد كتب النديم روايتين قدمهما للمسرح هما رواية ( الوطن وطالع التوفيق) و(النعمان) تناولت الأولى أحداث الظلم والفساد في المجتمع المصرى وقد كتبت بالعامية والفصحى بحيث نطقت كل شخصية بما يناسبها . ثم كتب الرواية الثانية وملأها بالبديع والبيان وأظهر فيها فضل العرب وما أتوه من العجب .. ولا يوجد من هاتين المسرحيتين إلا فقرات من رواية (الوطن وطالع التوفيق) وقد نشرها شقيقه عبد الفتاح النديم تحت عنوان (سلافة النديم).
حاول النديم في عمليه أن يرسم صورة ناطقة واضحة للمجتمع المصرى الذى أفقده الأستبداد إرادته .. وقد تنوعت شخوصه بين سكان المدن والقرى من فلاحين وصيادين .. انتقد اسلوب رجال الحكومة في جمع الأموال وإنتشار الرشوة وطالب النديم من خلال مسرحه بالتعاون لمحاربة الفساد من خلال إنشاء الجمعيات التى تحميهم وتقف إلى جوارهم في أزماتهم. ثم صور الأغنياء بالبخلاء وقام بمدح الخديوى ووضع الأمل بين يديه في إصلاح المجتمع.
ورغم أن الروايات تنقصها الحبكة الفنية كما ذكرت المصادرإلا أنها إلا أنها قدمت بخفة ظل النديم .. وقد قدم تلامذته مسرحية (الوطن وطالع التوفيق) على مسرح زيزينيا الذى يعد من أكبر مسارح الأسكندرية في ذلك الوقت وقد حضرها الخديوى ورجال الحكومة.
نبهت المسرحية الأذهان إلى العيوب التي يعانيها المجتمع المصرى أنذاك وما يتحمله الأهالى من ظلم . ورغم مدح النديم للخديوى إلا أنه لم يمدحه إلا ليقول له بأن الأمل بين يديه لإصلاح ما فسد ورفع الظلم الواقع على كواهل رعيته وأن محاربة الحكومة إنما هى محاربة للمستعمر المستبد الذى يسيطر على الأحهزة الحكومية. ويعد هذا من ذكاء النديم فهو يدرك أنهم من يتحكم في مقدرات الشعب وأن تذكيرهم بدورهم أولا قد يثمر وبهذا لا يحارب في جبهتين الإحتلال وأولي الأمر.
وكما ذكرت في البداية أن المسرح يحتاج إلى خبرة كبيرة ومعرفة لاتتوفر إلا لمن ينقطع لدراسته وتجربته حتى يبدع عملا خالدا وعدم إجادة النديم للحبكة المسرحية وازدحامها بالكثير من الشخصيات وارتباك دخول وخروج الشخصيات على الخشبة إلا أن الأسلوب الساخر عوض ذلك وخبرته الكبيرة فيما رأه وشاهده من ترحاله وتكوينه النفسى وتنوع ثقافته .
وقد رأى البعض أن مسرحيات النديم الغرض منها هو الإصلاح الإجتماعي .. لذا جاءت في شكل عظات وخطب يصب فيها ما أرقه مما شاهد اثناء مرحلة هروبه وكفاحه .. وهو بذلك خالف ما كان سائدا في المسرح أنذاك من ترفيه وترويح عن النفس من خلال ما يقدم من مسرحيات هزلية الغرض منها الهروب من الواقع.
ولكن النديم الذي خاض في كل المجالات كانت له رؤية أخرى سواء في مسرحه أو خطبه أو إبداعه بشكل عام .. لذا لم يبخل باستخدام كل الوسائل لإيقاظ ابناء الوطن مما سقطوا فيه .. والمسرح كان أحد هذه الوسائل التى حاول من خلالها أن يبرز مساوئ المجتمع المصرى السياسية والإجتماعية .. وهذا ربما لإيمانه بأن الفن قادر على تغيير الشعوب وهو مرآة الواقع الصادقة والناطقة.

ومع هذا التنوع الإبداعي ومن هذه الخبرات سواء اجتماعية،سياسية،عسكرية، أو أدبية وفنية، أستطيع القول بأن النديم يحمل سمات العبقرية الفنية والأدبية .. هذا الرجل الذى حفر اسمه بحروف من حب الإنسانية وتخليدها له .. ولا أدل على ذلك من هذا الملتقى الأدبي الكبير الذى يحمل اسمه ويحتفي بإنجازاته .. والذى اجتمع حوله كل هؤلاء الأدباء والمفكرين والمخلصين من ابناء هذا الوطن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عبدالله النديم المناضل الثائر،تأليف د.عبدالمنعم الجميعي/طبعة المجلس الأعلى للثقافة 2009.
* نفس المصدر.
**************************
واسمحوا لى أن أتقم بالشكر والتقدير لكل من : د. أشرف ذكى رئيس الهيئة المصرية للبريد .. والأستاذ على هاشم رئيس مجلس إدارة دار التحريروأخص بالشكر والتقدير صاحب الإختيار وصاحب هذا الجهد المبذول لإنجاح هذا الملتقى الشاعر والكاتب المسرحي والزميل الصحفي حزين عمر وفريق عمله لهم مني جزيل الشكر والتقدير.