مالم يقله قصيد.. فاطمة بن محمود

مالم يقله قصيد.. فاطمة بن محمود

بقلم: هالة فهمي
 
      إذا كان الصمت أبلغ من الكلام.. فقد طبقت الشاعرة التونسية فاطمة بن محمود والتي تعيش في تونس العاصمة.. هذه المقولة في ديوانها الصغير جدا قطعا وعدد صفحات .. الكبير جدا قيمة وفنا، وأعتقد أن كل قصيدة في هذة المجموعة الشعرية؛تثير مجموعة إشكاليات .. تطرح العديد من الرؤى في لغة شديدة التكثيف..فقد أرتكنت النصوص على مثلث شديد الأهمية هو البساطة والعمق والنص المفتوح والذي يتراءى للقارىء أنه كلام عادي إلا أنه مع عمق القراءة يكتشف خدعة الشاعرة ، بأن هذا الكلام العادي ما هو إلا قناع يخفي المسكوت عنه وأن الصمت لدى الشاعرة ما هو إلا غوص في الأعماق وتحليق في سموات مفتوحة .. وعندما نقول بساطة لا نقصد التسطح .. بل البعد عن التغريب بكل أشكاله .. مفردات ومعاني..وسمتا جماليا.

      تنتمي المجموعة لشعر الهايكو .. والهايكو هو نوع من الشعر الياباني يحاول فيه الشاعر من خلال ألفاظ بسيطة ؛ التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة، وتتألف الهايكو من بيت واحد فقط مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا باليابانية،وتكتب عادة في ثلاثة اسطر قد تزيد. ينحدر الهايكو من الشعر القديم ويعد أكثر رونقا وإرهافا من باقي الأجناس الأدبية .. عرف الهايكو في البداية بين الأوساط المثقفة وكانت أصول هذا الفن تعود إلى مباراة شعرية يقوم فيها شخص بإلقاء بيت من الشعر على أن يقوم الباقون بتكملة بيتين.. ثم أنتشر بعد ذلك بين العامة في القرن الـ17م – والقرن الـ18م .. يقدم الشاعر صورة شعرية تعتمد على استلهام مظاهر الطبيعة وربطها بأحاسيس وروح وآلام الإنسان..وهذا النوع ليس غريبا على الشعر العربي فهناك قصيدة


الومضة التي تعتمد على التكثيف الشديد و كما الآبدة في النثر العربي.

      وفي هذه المجموعة الشعرية (ما لم يقله القصيد) قسمت الشاعرة المجموعة إلى خمس تقسيمات هم "على مقربة من الحب" "في باحة الروح" "حزو المشهد" "الحديقة السرية" "النافذة الأخرى" ويضم كل عنوان مجموعة من القصائد التي تستلهم فيها الشاعرة مظاهر الطبيعة وتقوم بتضفيرها بمشاعر إنسانية نابضة .. تقول على سبيل المثال في قصيدة "مشهد حب":

في غفلة من الشمس التي
غابت منذ .. حين
أرتمى القمر في حضن
البحر
وتعالت شهقات .. المحبين.

الشاعرة هنا عمدت إلى ظاهرة أنسنة الأشياء .. فهى تصبغ على ثلاث ظواهر طبيعية ( الشمس - القمر – البحر ) خصائص إنسانية مثل الحب والعشق والشهقات ،بل والتربص والغفلة ..كلها أفعال تنم عن حركة وتفكير وتدبر.. وتراسل الفنون مع الطبيعة ليس بالجديد ولكن كيف توظف هذا التراسل.. ؟ هذا هو السؤال الأهم.
وفي قصيدتين تفلسف فيهما الشاعرة عمق العلاقة بين الكائنات.. تقول في الأولى بعنوان "حوار أول":

قال البحر للنهر
توسّع مجراك
ولن ... تشبهني.
قال النهر للبحر


لولا قطري
لما كان ماؤك
فصمت البحر.
وفي الثانية بعنوان "حوار ثان" تقول:

قالت السمكة للبحر
أنت جميل ..بي
قال البحر للسمكة
أنت حية بمائي
فعلقت به.

في مرادفات بسيطة لاتعمد للتعقيد أو التقعر عبرت عن جدلية الحياة وسر الأحتياج والروابط بين الكائنات ، وقد جاء أختيار العنوانين موفقا .. فكأن الحوارات ممتدة بين الأشياء والأحتياج ممدود بين كل ما في الكون وقد يكون هناك حوار ثالث ورابع وإلى مالانهاية .. فما دمنا أننا نحيا فنحن دائما نحتاج لبعضنا  والأحتياج لدى فاطمة بن محمود ليس الأحتياج المادي فقط ، بل الروحي أيضا وهذا ليس غريبا على شخص الشاعرة فمن يبكيها بيت شعر في قصيدة ؛ ترسل الروح للمدى بحثا عن المعنى .. تقول في قصيدة "عشق":

ما أروع الذي .. تهواه
ترسل الروح .. تلامسه
وتغمض عينيها ... تراه.

هى هنا توظف مالا يوظف.. حيث تتحكم في الروح فترسلها – مجازيا- حيث الحبيب فتلامسه هذا التلامس الشفيف الذي يليق بقدسية الروح التي علمها عند ربي وهى أيضا تجعل العين مبصرة وهى مغمضة .. تبادل الخصائص كان لتأثير هذا المعشوق على


نفس المحبوب .. ومفردة الروح لدى الشاعرة متكررة حتى أنها تفرد لها قسما يحتوي على مجموعة من القصائد اسمته في "باحة الروح" جمعت فيه كل ما يتصل بروحها الشاعرة ففي الأولى إبداعها والذي تشرق شمس يومها إذا كتبت فيه قصيدة.. تقول في قصيدة" فرح" :

هذا الصباح حزين
والوجوه كئيبة
هذا المساء موحش
والخطى .. شريدة
هذا اليوم يشرق
لو...
    أكتب اليوم قصيدة.

وتضم باحة روح الشاعرة أيضا مشاعرها الفياضة نحو جزء نابض منها .. فلا ينافس القصيد إلا الأمومة الطاغية لديها فالأبن عندها -أصفى من قطرة ضوء- وتشهد أنه هو .. النبي – والأبنة لديها – هى الزمن الغائب- هى وعد الإله- ثم تعود بنا الشاعرة للقصيدة حين تقول عن ابنتها:

هذه الطفلة .. دهشتي
كوكبي
البيت في .. قصيدتي
فتحت أبواب روحي
وأنجبت أمومتي.

إذن في باحة روح الشاعرة فاطمة وهنا لا إنفصام بينهما فالشاعرة متوحدة مع نفسها .. لا تكتب عن الآخر بقدر ما تصيغ مكنونات


روحها .. الأمومة والقصيد هما الفرح في حياتها فاليوم مشرق لو هناك قصيدة والأطفال هم أبيات القصيد عند فاطمة بل هم الذين أنجبوا الأمومة بوجودهم .. وهى هنا تعود بنا لتلك العلاقة الفلسفية بين الكائنات .. فلولا الأطفال ما كانت الأمومة ..وباحة روح فاطمة ليست مسكونة بالبحث عن بيت لقصيدة أو مشاعر الأمومة الفياضة فقط بل هى مسكونة بهم رابض بين الروح والجسد هموم البسطاء والمهمشين والمحرومين من أبناء الوطن .. هذا الوجع الإنساني الذى عبرت عنه في قصيدتها"غربة":

يغيظني أن تتبول القطط
على خبز يمكن أن يؤكل
اه .. يتكوم في حلقي
شجن..
إلى أخر أن تقول:
أحب أن أنتقل إلى بقعة ما
ربما .. أحب هذا الوطن.

ورغم النهاية المؤلمة لتلك القصيدة والتي تشكك فيها الشاعرة في درجة حبها للوطن إلا أنها نهاية كاذبة غاضبة كالأم التي تغضب من طفلها فتقول كما قالت الشاعرة المصرية جليلة رضا :
أهواك حب الأم لأبن مجرم.
فحب الأم لأبنائها لا يُختلف عليه .. هكذا تحب فاطمة بن محمود وطنها.. ولهذا فقد أكدت رأيها أو غضبها من هذا الوطن الذي جاع فيه الشرفاء وبالت قططه على خبزهم ولم ينصف الأوفياء منهم.. وعادت تؤكد على حبها له رغم كل شىء في قصيدتها التالية "أجمل حب" تقول:

هذه البلاد .. لي


ولا تسع حلمي
هذه البلاد... لي
ولا تشبه رسمي
هذه البلاد... لي
نجمة تتفتح
وهلالها يسبح.. في دمي
هذه البلاد...لي.

ولا تغرق الشاعرة أبياتها في الذاتية وإنما تنتقل للهم العربي الموحد ثم الهم الإنساني بعمومه ويظهر ذلك جليا في القسم الثالث"حزو المشهد" الذي تتجلى فيه الدلالات النفسية للبحث عن الحرية فتأخذنا معها إلى رمز من رموز الدفاع عن الحرية في قصيدتها"جاك بريفار... كم أحبك" واختيارها لجاك بريفار ليس اختيارا مسطحا بل عن وعي .. فهو شاعر الشعب بلا منازع في تلك الفترة الزمنية .. أحب الحرية ودافع عن هموم الناس اليومية .. كان له موقفه تجاه الفقراء والمضطهدين من خلال أفلامه ومسرحياته وأشعاره التي أنتجها.. كان بريفار يتحرك بقوة منحازا لطبقة العمال والفلاحين لثقته الكبيرة في قدرة الشعب على التغيير.. ولهذا أصبح من أشهر شعراء فرنسا محليا وعالميا..واختيار الشاعرة له لم يأتي تقليدا أو إنبهارا فقط بل تواصلا وأمتدادا  لعاشق ممن عشقوا الحرية ودافعوا عنها.. تقول عنه :

كم أحب هذا العصفور
كم يلذ لي صوته المنشرح.

والمشهد الذي تعنيه الشاعرة فاطمة بن محمود هنا ليس مشهدا وحيدا لكنها حرية العقل والروح والقلب.. يتضح ذلك جليا من خلال تنوع النصوص كما في"العصفورة" "الصياد الأعمى" "الدرس"


وغيرهم .. وقد امتلأ هذا التقسيم بالعديد من الرموز الفكرية والإبداعية .. مثل نيتشه الفيلسوف الألماني والذي يبدو تأثر الشاعرة به وبأفكاره ثم هناك جاك بريفار والهادي الدبابي والتشكيلية نبيهة قريع .. والشاعرة هنا لا تستدعيهم إستعراضا لثقافتها وموسوعية معرفتها وإنما هي تستدعي مواقفهم وأفكارهم .. هي تسترجع المشهد في ذاكرتها.. هذا المشهد الذي أنهته بقصيدة"عبث"وكأن لسان حالها يقول كل هذا الكفاح في زمننا هذا أصبح عبثا..تقول:

على السبورة السوداء
كتب المعلم تاريخ اليوم
بخط واضح و...معتاد،
تأمل التلميذ ذلك جيدا
لم يكن هناك أي لون
ينسجم مع تاريخ اليوم
غير... السواد!
لذا لا حاجة للدرس.

       ورغم هذا الألم إلا أن الصورة ليست قاتمة ولا تدعوا للتشائم خاصة عندما تصحبنا الشاعرة وتنقلنا إلى حديقتها السرية .. وهذا هو القسم الرابع من تقسيمات هذه المجموعة ،والتي تستهلها بالعودة للبراءة .. وربما للهروب لأزمنة جميلة ولت بكل دهشتها .. فها هى تعود لبراءة الطفولة الأولى بقصيدة تحمل عنوان "براءة"تسترجع فيها ذكريات الدرس ومشاغبات التلميذة التي لا يشغلها همٌ تقول الشاعرة الطفلة :

وأنا تلميذة
في القسم
ينشغل المعلم


بمسألة الحساب
أو شرح نص؛
وأنشغل أنا
بالنصف الأسفل من السبورة
حيث ضوء الشمس
من النافذة ينعكس؛
فيرف القلب
فرح طفولي
يوشك رنين .. الجرس.

هذا العقل الطفل الذي لا يشغله إلا رنين الجرس وشمس ترسم حدود حلم ضيق يتقافز تحت امتداد الدرس .. تراها الرغبة في الهروب من المعرفة؛ تلك التي تؤرقنا فيما بعد فنهرب منها بالذكرى الطفولية البريئة ولو لحين.. ومن البراءة إلى "الحاء" هذا الحرف الذي تناشد الشاعرة أبنها أن يتعلمه بقوة لأنه بداية للحياة .. تقول:

يا ولدي ستحتاج الحاء
كثيرا
لو تغير البلاد اسمها
وتصبح .. الحب.

لقد وصلت الشاعرة هنا طفولتها بطفولة أبنها وهو امتداد لها وتواصل تحرص فيه على نقل ما تعلمته وبثه في ثنايا روحه وكان هذا الدرس هو أبجدية الحب – أكتب الحاء جيدا /هي بداية حلم جميل – ثم هي تأخذ طفولتها البريئة وطفولة أبنها ليتواصلا مع الأم والجدة في حالة دفئ جميل تقول قصيدة"تبرك" :

أذكر مساء الإثنين


والجمعة
هذه الليلة –تقول أمي-
مباركة للنذور،
وتنفض دعواتها
في الموقد
فتتصاعد .. رائحة البخور.

وما بين جرس الطفولة في المدرسة وجرس الأستاذة المعلمة يختلف الصوت ويختلف الحلم ..فهى في قصيدة "نستالجيا" تقف في الفصل المدرسي لكنها ليست تلك الطفلة التي تداعب الشمس في النصف الأسفل من السبورة هى الأن منشغلة بالنصف الأعلى هى الأستاذة المعلمة وعليها إعطاء الدرس.. لكنها تتطلع للوجوه تتمني لو يعود بها الزمن قليلا لتتخلص من وجع المعرفة وجع العجز البشرى أمام قهر الإنسان لنفسه .. لو يعود الزمن قليلا لعادت تلك الطفلة السعيدة .. التي تتمنى رنين الجرس.. ويرن الجرس لكنه رنين مختلف رنين أيقظها حتى من الحلم اللذيذ .. تقول :

لو يعود الزمن قليلا
          يرن الجرس الآن
                تستفيق المُدرسة
                من تداعي ... الأمنيات.

إلا أن الأستاذة تستفيق بدرس غاية في الأهمية والعمق وهو درس تجاهلناه في زحمة الحياة  - ما أستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط- تؤكد فاطمة بن محمود أنه ميت أيضا حيث تقول في تناص مع النص القديم في قصيدة "الموت" والعنوان هنا إجابة على سؤال يطرحه النص كأنها تقول ماذا يحدث لـ :

رجل ... بكل شطط      
يحب الحياة
لنفسه ... فقط .

ورغم النهاية الحزينة لهذا القسم والذي تبكي فيه الشاعرة على موتها المعنوي في أحد قصائده .. وهى تبكينا أيضا فقمة الإبداع أن يتوحد الشاعر مع المتلقي فيصبحان واحدا لا ينفصلان.. فمن يقرأ قصيدة ذبول يتوحد مع الشاعرة التي تبكى على جسدها المسجى وترتيب قصيدة "ذبول" بعد "الموت" ترتيب منطقي فإذا كانت نهاية الرجل وموته يكون عندما لايحب الحياة إلا لنفسه فقط  أي عندما تشيع الأنانية .. فموت المرأة يكون بذبول عطائها .. لأن المرأة لا تنضب عن العطاء بشكل كامل إلا عندما تموت فالأمومة شىء فطرى ..والأمومة والعطاء وجهان لعملة واحدة.

     ورغم هذه الحالة اليائسة إلا أن الشاعرة مازالت تحلم فهاهى تطل علينا من نافذة أخرى في القسم الأخير من المجموعة والذي حمل عنوان"نافذة أخرى" تقول في "استراحة":

شجرة الخروب تتحمل
قيظ الهاجرة
لتمنح ظلها.. للعابرين.

وتقول في "ألفة" :
عباد الشمس
يمد وجهه للأشعة
المحرقة
يقي نملة تحته ... تستريح.

أنظر معي دلالة المعنى في النصين فالعطاء هنا بلا مقابل .. ولا ينتظر المقابل .. لأن العلاقة بين الأشياء هنا علاقة النقيضين ؛ فعباد الشمس يقي نملة تحته .. وشجرة الخروب تتحمل قيظ الهاجرة لتعطي ظلها لأي عابر سبيل.. العطاء في المطلق إذن هو الظاهر ..أما المسكوت عنه ( فكن جميلا ترى الوجود جميلا ) .. وتأمل معي النص الآتى لتدرك المعنى في "حنين" تقول :

في مدن الشمال
يبدو النخل شاهقا
أكثر من اللأزم
ليطل على .. الصحراء.

هذا النخل السامق لا يكتفي بمن يمنحهم ثمره وظله .. بل يهفو للتوحد والتواصل مع جنس آخر من أجناس الطبيعة ، الصحراء حيث قمة الفناء والنخل رمز العطاء .
إن فاطمة تحيلنا هنا إلي حالة من التواصل الكوني بين الكائنات الطبيعية .. هذا هو الظاهر .. أما الباطن فهو دعوة الفيلسوف الذي يروي لتلاميذه درسا رمزيا ليدفع بهم للدرس الحقيقي المباشر.. ويتجلى هذا عندما تطرح نصها الختامي والذي لا أظن ترتيبه هذا جاء محض صدفة .. إنما عن قصدية جلية وهي تأملها لتلك العلاقة بين المخلوقات المسالمة كالطير وبين البشر.. هنا تناص مع التراث
فكما أخذنا نحن أبناء أدم درسنا الأول من طير وهو الغراب الذي علم قابيل ابن أدم كيف يوارى سوأة أخيه بعد أن أرتكب أول جريمة على الأرض وعجز عن دفن أخيه .. فهاهى ذي الطيور تعلمنا درسنا الأخير ؛ وهو رغم حسد البشر للطيور على الحرية التي لايتمتع بها هؤلاء البشر ..إلا أن الطيور تغرد لهم!!
هذا البعد الفلسفي في القصيدة وعمق المغزى .. المسكوت عنه هنا يضع علامات أستفهامه .. هل هذا الحسد ممتد منذ علم الغراب في صمت درسه الأول لهذا الإنسان الذي قتل أخاه حسدا أيضا لكونه محبوبا أكثر ؟اسئلة كثيرة يطلقها العقل حين يفكر .. خاصة حين تتأمل العناوين وتجدها في هذا الجزء تتكون من حنين وألفة وحرية ..كلها نوافذ أمل تؤكد أن الشاعرة لم تغلق عليك الدائرة لكنها فتحتها منذ اختيارها لهذه التقسيمة التى لو قرأتها في جملة مفيدة لوجدت الآتي :(على مقربة من الحب تجولت في باحة الروح حزو المشهد لأصل للحديقة السرية لأفتح لك نافذة أخرى).

     من خلال استرجاعنا لقصائد المجموعة ومن عنوانها علينا أن نطرح سؤالا .. أين إذا مالم يقله قصيد فاطمة بن محمود؟ إن مالم يقله أكثر بكثير ..فهي هنا تفتح أمامنا الرموز وتتطلق لك حرية الأحساس والتفكير وهذا ما نستدل عليه من العنوان( ما لم يقله القصيد ) القصيد هذه اللحظة الكاشفة المكثفة التي يعيشها المبدع .. وهى من أصفى وأصدق اللحظات التي يعيشها على المستوى النفسي والعقلي معا .. فالقصيد هو خلاصة ما يفرزه الشاعر من عشق أو هم .. وجع مقيم بين الضلوع .. أو بهجة تحلق نحو الغيم .. الإبداع بصفة عامة هو لحظة الحرية الأكيدة في حياة المبدع.
كما يبدو البعد الفلسفي واضحا جليا على المجموعة الشعرية ففاطمة تعري المجتمع من خلالها فهي تضع النقاط فوق الحروف وتفرغ بين المسافات تاركة للمتلقى فرصة أن يضيف من همه الخاص ويهدم ويبني لكن ليس في القصيدة إنما في أفكاره ذلك لأن الشاعرة لم تعطه الفرصة للمساس بأبياتها لأنها صاغت فكرها بلغة شفافة هامسة معبرة.
إن فاطمة بن محمود قالت في المسكوت عنه : أنا جزء من كل ..فإذا كان هذا همي وحالي في وطننا العربي ..فما بال الكل ؟! بهذا العمق الفلسفي الذي عمدت إليه من خلال حالة التواصل وحالة العلاقة الجدلية بين الأشياء لديها عبرت عنا فاطمة لهذا نقول أن مالم يقله القصيد.. هو تلك المساحة والفضاء الذي تتركه الشاعرة لريشتنا لنكمل المشهد .. الشاعرة لا تتقن إلتقاط اللحظة الشعرية فقط بل هى تعبر عنها حين تستدعينا بهدوء وعمق الفلاسفة إلى حيث تبحث أنت عن المعنى ..عن المسكوت عنه.. عن علامات استفهام بطول المجموعة.. وعندما ستعرف الإجابة ستصل إلى مالم يقله القصيد.