أغنية للمهمشين

أغنية للمهمشين
               
   بقلم : هالة فهمى


إذا كانت القصة كذبة متفق عليها بين المؤلف والقارىء كما يقول الأديب يوسف الشارونى فى دراسته النقدية، فمصطفى عبد الوهاب، عرف كيف يتقن كذبته الجديدة فى مجموعته القصصية ( على من الدور ؟ ) الصادرة عن سلسلة إشرقات جديدة – هيئة الكتاب ، فهو كقاص وروائى يعرف كيف يسيطر على القارىء من أول سطر .. حتى آخر حرف ..بل قادرعلى أن يجعل المتلقى فى حالة معايشة كاملة لأبطال قصصه ناسيا أنها فى البداية ..مجرد كذبة .
ولكننا لا نستطيع أن نسلم بأن الإبداع الأدبى كذبة أوحدوته فقط فهو من المجتمع وإلى المجتمع .. وقد فسر بعض النقاد أن الأديب كالجراح يشرح عيوب المجتمع ويظهرها بنية التطهر منها أو التغيير. يصاغ هذا الهدف النبيل فى قالب تقليدى أو سريالى أو تجريدى ، المهم أن يصل الهدف المرجو . دون أن يغرقنا فى ديماجوجية لا هدف من ورائها إلا شهوة الكلام والكتابة.
ومصطفى عبد الوهاب بعيد عن هذا ، يرسم شخصياته بإتقان وبراعة ويضيف من خلال السرد أو الحوار ملامح جديدة تساعد على تعميق الشخصية التى تحمل أفكاره ورؤاه للقارىء ولغته دائما مناسبة لأبطاله . إلاقليلا من الهنات التى تنفلت منه فمثلا فى قصة (من يعرف أسرار الحب ؟ ) يطرح لنا بطلين متناقضين فكرا ، ولكن هناك ما يدفعهما لأن يرتبطا ويحاول كل منهما مقاومة هذة العاطفة إلى أن ينتصرا فى النهاية على كل خلاف إيدلوجى بينهما .. وإن كنت أفضل أن تنتهى القصة عند لحظة المفاجأة للجميع بزواج سلمى وجاسر بطلى القصة .. ولم يكن هناك داع لما جاء بعد ذلك من استطرادات. لأنه لم يضف جديدا فى مضمون القصة،واعتقد أن مصطفى لو كان قد توقف عند هذه النهاية ، لكانت ستعطى شيئا من الغموض المحبب .. وردا على السؤال المطروح فى العنوان (من يعرف أسرار الحب ؟ ) الأجابة مفتوحة لذهن المتلقى ليبحث عن تلك الخلطة السرية والتى لايعلمها إلا الله، والتى أنتهى بعض المفسرين للغة العلم على أنها كيمياء ولا فرق بين الكمياء والخلطة كلاهما عناصر وجزيئات قدتتفق أو تختلف أو تنفجر عند اللزوم .
وفى قصة (على من الدور؟ ) التى تحمل اسم المجموعة والتى أراها من أروع قصصها فقد وفق القاص فى وصف الحالة النفسية التى تنتاب الأنسان بعد مروره بتجربة رحيل عزيز عليه إلى الجانب الآخر من الحياة .. فى لقطات لاهثة .. تعرفنا على أبطال قصته ، وبتقنية فنية عالية استطاع أن يلون المشاهد ،بنفس القدرة جاءت المفارقة : الدور على أبعد شخص تتخيله البطلة .. كأن الموت يلعب لعبة مع ذكاء الأنسان ، يتحداه ويقهره فيها .. قصة نفسية وفلسفية . إلا أن نهايات القاص دائما تبخل على المتلقى بمتعة التخيل والتحليل ..فالقاص يرسم الإطار ويضع فيه الصور التى يريدها وكأنه حجم المتلقى عن طرح هذا التساؤل الوجودى الذى يشغل كل إنسان .. متى يحين الأجل .. وعلى من الدور؟ .
وتتولى تنويعات الأديب مصطفى عبد الوهاب على أحزان البسطاء والمهمشين ففى قصة ( الحمار المراوغ ) الموظف النشيط الطيب الحمول المتسامح .. السلبى، والذى يضيع حقه عاما بعد عام ، عشر سنوات .. فارق زمنى فى موقف واحد لا يتغير ولم نشعر بهذا الفارق الزمنى، للفنية العالية ولقبض القاص على اللحظة التى يؤكد فيها على أن لاشىء يتغير ما دمنا نحمل فوق ظهورنا ( خرجا ) مليئا بالأعذار والسلبية .
وينتقل المشهد على لقطة أخرى لمهمش جديد فى مشهد ساخر فى قصة ( هل خدعنى يوسف شاهين؟ ) والكاتب يعرف كيف يوظف سخريته جيدا، ويركز عدسته اللاقطة على ممثل صغير يحلم بدور مميز مع مخرج عبقرى لينقله إلى عالم الشهرة .. وبعد اللقاء وبعد تحقيق الحلم يكتشف إنه لم يكد يظهر إلا فى جزء من الثانية ،وهنا حاول أن يفلسف الموقف أمام أهله وأقربائه البسطاء الذين جاءوا لمشاهدته .. فقال لهم أن دوره يشبه دور العصفور على الشجرة .. فهل يستأذن العصفور كى يطير؟!
رؤية فلسفية جديدة .. عندما يضيق الواقع بالبسطاء فيهربون وراء الأحلام . هكذا يرى الكاتب .
وعلى نفس الوتر .. جاءت قصة ( تراشق ) ، و ( من يفضل المشى فوق الألغام؟ )، و ( لحظة خاطفة )، و(لمّ القلق يا عزيزتى؟ )، وهذه القصة الأخيرة تعتبر دراما متكاملة الأطراف من حيث الحوار، الوصف، الزمان، المكان . والحقيقة أن الكاتب وضع كل إمكانياته الفنية حتى تمت بشكل رائع ممتع لا يتقنه إلا روائى ذو شخصية فى كتاباته، وسناريست له بصماته الخاصة أضف إليها النقد الفنى الذى تميز به المؤلف . لتعلم مع أى تركيبة فنية نتعامل .
أما قصة ( فى الحى العتيق ) فهى مليئة بحشد من المحاولات الى تدلل على وجود الوحدة الوطنية فى مصر، وقدجاءت بشكل أفسد العمل وأجهضه وأخرجه من نطاق الصدق الفنى، الذى اتسمت به باقى قصص المجموعة .
مصطفى عبد الوهاب .. يخلص للمهمشين .. يتفانى فى إبراز آلامهم وكأنه مرآة لأوجاعهم .. ينتقل ببراعة ما بين السخرية و التراجيديا ..إلى الفانتازيا كما فى قصة (كيف تم إغتيالى؟ ) والقصة تحتمل التأويل، فقد يعنى الكاتب الوطن الذى تعرض للخيانة والبيع ..ثم إرتمائه فى حضن قوى أظهرت الصداقة ورسمتها قناعا على وجهها حتى تمكنت منه،.
لقد جاءت معظم عناوين المجموعة على شكل سؤال .. فهل هذا جاء عن قناعة مصطفى عبد الوهاب بأن الأدب سؤال مطروح للمتلقى لإثارة عقله ودفعه إلى التفكير فى واقعه الذى يسوء يوما بعد يوم ؟! قد يكون .. فقد طرح مصطفى عبد الوهاب العازف على قيثارة المهمشين سؤاله ولم ينتظر الإجابة، رحل عنا تاركا علامات استفهامه تراودنا .. فترى على من الدور يا أيها الصديق الوفى ؟!