رحيق الليالى فى النص المسرحى الحديث

رحيق الليالى فى النص المسرحى الحديث
  
   منذ أن فتحت شهرزاد تلك الساحرة الجميلة جعبة مكرها ودهائها وظلت تحكى عن الليالى الألف والعالم كله مأخوذ بما قالت يستلهم منها وقد كان للمسرح العربى نصيب أكبر بحكم الإرث و التأثر العميق بهذا المأثور الشعبى العظيم منذ أن بدأ المسرح العربى عام ١٨٤٧ على يد مارون النقاش فى لبنان وعلى يد يعقوب صنوع فى مصر عام ١٨٧٠ و استلهام الليالى لم يتوقف إلى الآن وها هما كاتبان من أكبر كتابنا العرب يعيدون استلهام التراث من خلال أعمالهما المسرحية الأولى وهى ( الملك هو الملك ) للكاتب السورى سعد الله ونوس و المسرحية الثانية ( على جناح التبريزى ) للكاتب المصرى ألفريد فرج .. هذا لايعنى أنهما الوحيدان ولكن غيرهما كثير منهم توفيق الحكيم ، وبيرم التونسى ، و عزيز أباظه ، ونجيب الريحانى ،رشاد رشدى ، فاروق خورشيد ، ومحفوظ عبد الرحمن ، أحمد سويلم ، سليم خورى ، وعديد من الأسماء لا نستطيع حصرها لذلك نكتفى بالنصين ونحاول أن نقدم رؤية لهما من حيث :
                           _   التحليل للنص
                           _   ماذا أضاف النص
                           _  علاقتهما بالتراث
                           _   وظيفة كل منهما
                           _   مقارنة بين النصين



                     (  الملك هو الملك )   تأليف : سعد الله ونوس .

   رائعة ارتشف الكاتب السورى رحيقها من حكايات ألف ليلة وليلة وحولها إلى مسرحية شعبية تنادى بسقوط الطغاة وتحفز الناس على أن يرفضوا لا مجرد الطغاة بل الطغيان ذاته .. فالتغيير لا يأتى حين يسقط ملك ويقوم آخر وإنما تتحول الأنظمة إذا ما تغيرت من الأساس وهذا ما يحاول سعد الله ونوس قوله أو بثه إلينا وزرعه داخل خلايا عقولنا من خلال لعبة مسرحية وصداع إنسانى من أجل صنع المصير قالب يحمل هم قومى مستوحى من تراثنا العربى من خلال (ألف ليلة وليلة) أسطورة الأدب والتراث العربى . يصيغ اللعبة المسرحية من خلال تقنية حديثه من المسرح الغربى .. المسرح البرختي على وجه الخصوص ، فالمؤلف لا يريد للمشاهد أن يغيب خلف الإيهام ولكنه يريده حاضر الذهن .. متقد البديهة .. مستعد للتغير ويصبغ عرضه بحرفة الصائغ العبقرى فى لافتات .

  تشير اللافتة الأولى فى مستهل النص إلى أن المسرحية " لعبة تشخيصية لتحليل بنية السلطة فى أنظمة التنكر والملكية " . وإذا تجاوزنا التحديد المجمل لهدف المسرحية المتمثل فى تحليل بنية السلطة ، وتوقفنا قليلا أمام شكل المسرحية التى تحددها اللافتة باعتبارها لعبة تشخيصية ، فربما يمكن أن نلاحظ ، أن اللعبة أو الحكاية تحدث من منظور لاعبين أساسين فيها (زاهد – عبيد) يقودان اللعبة ويتداخلان فى مساراتها ويشيران إلى اللافتات الإجمالية لمشاهدها المتتابعة ويؤكدان الدلالات والرموز ، هنا لا يسرد الراوى حكاية متخيلة منحدرة من أمكنة وأزمنة خيالية ويصغوها عبر انتقالات وإحالات معينة .

  تحت لافتة المدخل التى أشرت إليها ، يتوافد الممثلون بملابس شخصياتهم مكونين فى الفراغ المسرحى أوضاعا تشكيلية و حركات بهلوانية , ثم ينقسم الممثلون - مكانيا - انقساما أوليا و دالا :

  فشخصيات الرعية ( الجماعة المنسحقة ) التى ينظمها زاهد فى مجموعة , و شخصيات السلطة ( الجماعة المهيمنة ) التى ينظمها عبيد فى مجموعة , بينما شهبندر التجار و الشيخ طه يقفان فى زاوية بعيدة و هما يعبثان ببعض الدمى المعلقة بخيوط . هذا التوزع المكانى يشير إلى انتظام العالم فى رؤية ونوس فى كتلتين ( الرعية – السلطة ) و انقسامه فى أطر سياسية و اجتماعية محددة, بحيث يمكن , و قد اندرج العالم فى وضوح الرؤية و يقينها , أن يوزع ( زاهد و عبيد ) أدوار اللعبة و يقودان مساراتها و شخصياتها , فرغم هامشية وجودهما الاجتماعى و الحيز الضيق الذى يتحركان فيه داخل علاقات النص , إلا أنهما - مسرحيا - يمارسان وجودا مهيمنا على منطق اللعبة و شروطها , إنهما يؤجلان أحلامهما فى المشهد الافتتاحى و لكنهما يسعيان لتحقيقها داخل اللعبة عبر كشف مغزى التنكرات الدائرة بين الرعية و السلطة , و عبر لعبة المسموح و الممنوع التى تتبادلها الكتلتان الرئيسيتان فى المشهد . تبدأ الشخوص فى توصيف وجودها النوعى الذى يعطى أبعادا دلالية أولى للمكونات الخاصة بكل شخصية , و هى المكونات المستمرة فى اللعبة , رغم الانتقالات الحادة فى المصائر المتكونة . و بعد مشهده الافتتاحى , بلافتته المجملة و انتظام الممثلين - فى اختزال بصرى و رمزى لبناء العالم - فى كتلتين متواجهتين و بينهما الشيخ و التاجر , ينتقل النص فى مشهده التالى , و يلقى مرآته على المكان الملكى , و يكون أشياءه و علاماته المادية تحت لافتة مجملة تشير إلى " عندما يضجر الملك , يتذكر أن الرعية مسلية , و غنية بالطاقات الترفيهية " .

    وينتظم المكان و العلامات و الشخصيات فى مشهد الضجر الملكى فى تكوينات رمزية , فالبلاط اتساع مكانى بارد و عارٍ , و الملك كتلة قماشية تجلس على العرش غائصة فيه , و يبدو حضوره مكثفا فى ثياب ذات ألوان حادة و معقدة بحيث تظهر الثياب و كأنها قالب يرتدى الملك و يشكل قوامه .

    و عبر انتظامات حوارية تشير ليس فقط إلى الضجر الرملى الذى ينتاب الملك و يتخلل أنسجته و خلاياه , و إنما -  و هذا هو الأساس - إلى بدء افتقاد الملك لشروطه و تعامله باستهانة مع رموزه و علاماته , إنه يتعامل بامتلاء ذاتى و تضخم وجودى و انتفاخ لغوى ليس كملك و لكن كرجل , و يشير إلى المملكة كامتداد لوجوده , مجرد كتلة من البضائع و الأمتعة و البشر , وإذ يتبرم الملك من مسئولية المتاع و تبعات المدينة , و يسعى عبر لغة التنكر و الاستبدالات إلى العامة فى شوارع مملكته و بيوتها اليابسة , لا كملك يريد المدينة عارية كى يرصد المجريات و الأفكار و الاتجاهات , و لكن كى يصنع من المدينة لعبة صغيرة و دمية ليلية يتقاذفها مع وزيره فى ليلة عابرة , فيقول فى تحديدات كاشفة " عندما أصغى إلى هموم الناس الصغيرة , و أرقب دورانهم حول الدرهم و اللقمة , تغمرنى متعة ماكرة , فى حياتهم الزنخة طرافة لا يستطيع أى مهرج فى القصر أن يبتكر مثلها " و هكذا – كى تردم هذه الفجوة المعتمة من الضجر , يتجرد الملك من ثيابه و شاراته و رموزه , و يتعرى تدريجيا , و حين يسائله الوزير المدرك لدلالة الثوب و خطر الرمز , بماذا يحس حين ينزلق الرداء المهيب عن جسده , فإن الملك يجيب : لا شىء , و مع الإظلام التدريجى , تتساقط الثياب و الرموز و السلطة عن الجسد الملكى الذى يبدأ الآن تنكره و يفقد وجوده .

   و تبادل الرعية مليكها لعبة التنكر و الاستبدالات , فحين يبدأ الملك مصطحبا الوزير فى جولته الليلية متنكرا , كان اللاعبان الأساسيان فى الحكاية و المنظمان لأدوار اللعبة و شروطها ( زاهد – عبيد ) متنكرين في طريق منزوية و معتمة , عبيد في صورة شحاذ مقوس الظهر بارز الحدبة , يقف متوكئا علي عصاه فيم يأتيه زاهد في هيئة حمال , و يبدأ الاثنان اللذان يشكلان البديل السياسي و الاجتماعي للسلطة الطبقية في تبادل حواري كاشف عن طبيعة البدائل الفكرية و تصورها عن كيفية التغيير و سياقه , إن عبيد المتبدي في صورة شحاذ متنكر خلف الحدبة و العصا , يقود اللعبة في المسرحية , و يحكم منطق البديل السياسي و توجهاته في المملكة الخيالية, فيكشف عن رؤية محكمة في المنطق و اللغة و لكنها مهمشة في الحكاية و المدينة , " يجب أن ننظم السباق بشكل محكم , هم يمعنون في الإرهاب و نحن نمعن في التنكر , التناقضات تنمو , و حركتنا تشتد , ينبغي أن نتواقت من اللحظة المواتية  ".

   و هنا – يتأسس النص , كما يرى ونوس في إيضاحاته التذييلية علي استعارة مسرحية مركبة , لها جانبها الرمزي العام , كما أن لها جانبا واقعيا يرتبط بأحداث الحكاية , هذه الاستعارة هي عملية " التنكر " تلك التي تتشكل عبر مستويات دلالية متعددة , و عبر أماكن و علامات متحولة , فهناك المكانان اللذان سوف يشكلان لعبة الاستبدالات و طبيعتها الرمزية : بيت أبي عزة المغفل , و القصر . و إذا كان بيت أبي عزة هو الذي شهد التنكر الملكي و بدأ لعبة استبدال المواطن بالملك, فإن البيت كذلك يحوي النقيض الكامل لعلاقات المملكة و تنكراتها الشائهة , ففي غرفة رطبة و مهملة في بيت المواطن المتعابث يسكن عبيد مختفيا و متنكرا .

   إن عبيد يتنكر داخل الحكاية و لكنه يكشف التنكر , سياسيا و مسرحيا , عبر اللعبة , أن الشخصيات فى تواجدها الفردى و الجماعى و كذلك الرموز المرتبطة باللعبة , مؤطرة لها و متخللة , كل ذلك يتجسد فى النص عبر علامات متحولة تتوحد بالمكان و الشخصيات و تغربهما فى مشاهد و تضفى عليهما إيهامية مصطنعة فى مشاهد أخرى . ففى ذلك المشهد الكاشف عن شخصية أبى عزة و تسلط حلم الولاية الملكية عليه فى تمهيد مسرحى ضمنى لانتقالاته المقبلة , فإن أبا عزة يتماهى مع رغبته المستحيلة فى أن يكون ملكا فى تناقض جذرى مع وضعيته الاجتماعية البائسة , يتماهى أبو عزة مع العلامات الملكية التى يتوهمها دالة على القوة و السلطة و مؤشرة عليهما , فينفصل عن إطاره المكانى و الشعورى و يبدأ فى استرسال ذاتى يستجمع صورته الملكية المهيمنة و القاهرة لأعدائه و حساده , فيحكم عليهم , عبر وضعيته كمواطن بائس و ملك متوهم , بعقوبات متعددة .
هنا في هذا المشهد الإيهامي المصطنع , يتماهي المواطن المغفل مع رغباته المستحيلة , فينخرط في تداعيات مرسلة منغمرا في اللعبة : " ها أنتم جميعا أمامي , و مصيركم معلق بطرف لساني , كان الشيخ هو البادئ ثم تلاه الشهبندر و الخلان , تكاتفتم علي خرابي و دماري , .. و لكن ها نحن نلتقي و قد اعتدل الميزان , سيكون انتقامي عسيرا ". و حينما اعتدل الميزان كما تمنى المواطن البسيط منغمرا في لعبة الرغبات المستحيلة , و استيقظ ذات صباح ليجد نفسه ملكا حقيقيا و قد اعطاه الملك السابق الرداء و السرير , فإن المواطن ينخرط منغمرا في لعبة مضاده , يتفتك المواطن و يعاد تركيبه كملك, و بين اليقظة الذاهلة و الحلك المتبدد , يتحول المواطن و قد استيقظ ملكا في تكثيف مشهدي لفكرة النص المحورية , و هي أن السلطة علامات و رموز و ليست أشخاصا معينين , و أن الملك تجريد لمؤسسات و أوضاع و قوانين و ليس ملامح فردية لرجل  يتبدد في ضجره و يتلاشى في لهوه الليلي مفتقدا شروطه و علاماته .

   و جوهريا , فإن الكيفيات التى تتبدى عليها الدلالات النصية تقوم على لعبة تبادل العلامات بين الشخصيات , يخلع الملك الأصلى الرداء و يتخلى عن إشاراته الملكية , فيؤشر ذلك على انتقاله الحاد من ملك إلى نديم متخبل فى الردهات الرخامية , و يستيقظ أبو عزة فى المخدع الملكى مرتديا رداء الملك و إشاراته , فلا تستغرق المسألة أكثر من صياح عابر و صفعة من "عرقوب" الخادم السابق و الوزير المصطنع , حتى يمتحن المستيقظ ملكا التخوم التى تفصل بين اليقظة والمنام , وإذ يتبين وجوده المغاير و المتجسد فى لحظات حقيقية غير متوهمة , فإنه يتساءل , قاطعا و بشكل نهائى , الصلات التى تربطه بعالمه القديم: " ما الذى يشوش رأسى هذا الصباح , منذ متى و نحن الملك و الوزير ؟ " يتساءل المواطن الذى أعادت العلامات المادية تركيبه كملك, و لكنه لا ينتظر إجابة عن تساؤل يؤشر فقط على اختفاء العالم القديم و المواطن المغفل , و تجسد العالم الملكى و تواجده المهيمن , و هكذا – فإن المواطن يختفى قطعة قطعة مثلما تلاشى الملك القديم مع عملية الخلع التدريجى للأردية و الإشارات .

   و يجسد ونوس مشهد الانتقال من المواطن إلى الملك عبر عملية ارتداء متدرجة و طقوسية للملابس الملكية , و مع كل قطعة ثياب تحل على الجسد الملكى الجديد , يختفى المواطن و تبدو التخوم , الفاصلة بين وهمه و يقظته زجاجية يتراءى فيها ضوء و سراب , و مع التتابع الطقوسى لارتداء الملابس, يكتسب المواطن المتفكك ليس فقط وجودا ملكيا مغايرا , و إنما – و هذا هو الأساس – يكتسب وعيا حادا بالدولة و معرفة متنامية بطبيعة السلطة المتجسدة كبناء رمزى و تجريدى , فى علامات و إشارات .

   هنا يتم تبادل عكسى بين الثياب و الذاكرة , و طردى بين الوجود و العلامات , فمع كل قطعة ثياب جديدة تتساقط ذاكرة المواطن و تحل إرادة الملك , و مع تجسد العلامات يتكون الوجود الوليد و يكتسب البهاء و السطوة , كل ذلك فى تدرجات بصرية و إحالات دلالية و تقابلات متراوحة بين العلامة و المكان , بين الشخصية المتعينة و التجريد الرمزى للوظيفة , و بين الحوار و الطقوس .