فهرس الدراسات الأدبية

............................

دراسة نقدية كتبها الكاتب الأديب أحمد فضل شبلول

***********************
أحدث مقالات الكاتب الأديبة هالة فهمى :
**************************
******************************


الصراحة لعبة النساء
.
نص مسرحي للنساء فقط !! 
.
صدرت مسرحية "الصراحة لعبة النساء"
.
ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة
.
تأليف/ هالة فهمي
.
وتقديم د. محمد عبد الله حسين.

شهادة غير نسائية


شهادة غير نسائية
                                  
 بقلم : هالة فهمي
 
استشراء ظاهرة محاصرة النساء داخل دوائر تعبيرية بعينها، وخطورة هذا الظن وهذه المحاصرة لا تقل عن محاصرة المرأة داخل البيت .. فنحن نريد للمرأة العربية أن تخرج لا أن تحاصر، وهذه الموجة شاعت في السنوات الأخيرة أو على أقصى تقدير العقود الماضية بتأثيرات الغرب وإدعاءته حول تحرير المرأة العربية .. واستغلال بعض جمعيات حقوق المرأة غير المتخصصة .. ونحن لم نجد أحدا قبل هذه الموجات يقيم كتابات سهير القلماوي، وملك عبد العزيز، وعائشة عبد الرحمن و أضرابهن ..على أنها كتابات نسائية أو أنها أدب مرأة .. كما أن أحدا لم يضع شعر الخنساء، وولادة بنت المستكفي ، وفضل الشاعرة في العصور الإسلامية المختلفة تحت لافتة  " تنبه  شعر نسائي " !!

وإن كان هذا نتيجة تجوالي في تاريخنا وتراثنا فإني أتحدث عن أدب أراه إنسانيا وعربيا ولا أريد له هذا الحصار .. أنه ما أُنتجه أنا بصفتي إنسانا عربيا لا بصفتي الأنثوية.
لعلي أكون امرأة محظوظة لأنني نشأت في منزل يقدس الثقافة والقراءة، لأب عشق الأدب .. تفتحت عيوني على مكتبة كبيرة في بيتنا. ولم يحالفني الحظ فقط في النشأة الثقافية .. إنما وجودي في عائلة يسعدها إنجاب البنات وتستبشر بالأنثى على عكس الموروث المصري القديم بأن الولد هو الامتداد لعصب الأب الضارب في الأرض والممتد لعنان السماء .
وكوني الحفيدة الكبرى وهبني القدرة على ألا تنقسم تربيتي بين الممكن وغير الممكن ، فخضت غمار الحياة بقوة .. درست ما رغبت .. وتزوجت بمن أحب رجل عالم مثقف يقدر قيمة الكلمة فخططت لحياتي كأي إنسان يتمتع بالحرية التي هى قرين للإبداع فإن لم يكن المبدع حرا في تفكيره فلن يكون حرا في إبداعه. والحرية لا تتجزأ فالمبدع الحقيقي هو من يمتلك حريته ويتحمل ثمنها.

هذه المقدمة لا تخرج عن الشهادة الإبداعية وإنما تؤكد عليها .. لأنني مؤمنة بأن المبدع لا ينقسم على ذاته فالتجارب الإنسانية والحياتية تنعكس على الإبداع بشكل أو بأخر ولهذا كانت الصورة لدى واضحة ولأن المبدع يرقى عن الواقع .. فهو لا يعيد صياغة هذا الواقع وإنما يرسم ملامحه برؤيته ونظرته.
وقد تعددت صور المرأة في إبداعي .. بل لعلي اكتشفت بعد العديد من الإصدارات أنني مهمومة بالكتابة عن موضوعات تخص المرأة على كافة شرائحها .. وهذا لا يعني الأدب النسوي لأنني لا أؤمن بالتقسيمات ولكن إيمانا بتكاملية وحدة المجتمع والحياة ، فلا يمكن الحديث عن الرجل دون ذكر المرأة والعكس فهما جناحا التحليق في الكون.. والعلاقة السرمدية بينهما تجعلهما المحور الحقيقي للإبداع .. لأنهما الوحدة البنائية لهذا الإبداع .. فالإبداع جولة اجتماعية وتاريخية ونفسية من منظور المبدع .. لا من باب قهر الرجل للمرأة أو قهر المرأة للرجل .. إنما  و ربما لقهرهما معا سواء كان قهرا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا.
من هنا جاء تنوع صورة المرأة لدى .. فعبرت عنها :
عاشقة ،مبدعة ، ظالمة أو مظلومة ، طموح ، صاحبة قضية ، ثم المرأة بين القضايا السياسية والاجتماعية .. كل هذا من خلال تنوع إنتاجي الإبداعي ، ككاتبة للقصة والرواية والمسرح أو شاعرة ودارسة متخصصة للنقد.



في القصة:

تناولت صورة المرأة في أربع مجموعات قصصية صدرت لي ففي مجموعة ( للنساء حكايات) ومن خلال إحدى وعشرين قصة قصيرة احتلت صورتها مساحة كبيرة مؤثرة في حركة النصوص ولا يمكن القول بأن كل امرأة في هذه النصوص تعد تمثيلا موضوعيا لحياة المرأة ، إنما هناك تجاوز في الشكل والدلالة ففي قصة (رجولة أنثى) حاولت التدليل على أن الرجل العربي كلما تنازل عن دوره .. مسخت ملامح المرأة فلا هى بالرجل ولا هى بالأنثى .. وكيف أن هذه العلاقة التي يربطها ذلك الخيط الرفيع جدا .. لا يمكن أن تستمر مع تنمر المرأة  - بطلة القصة- واستغلالها للحرية على سبيل قلب الاوضاع .. لا تصحيحها.
العكس في ( علامات) هى امرأة مقهورة بفعل وراثة القهر وتناوبه عليها .. فالأب قاهر لها وبعد ذلك الزوج، ولأن للقهر علامة في النفس البشرية تفوق كي النار .. فهى هنا تطارد الخوف ويطاردها حتى بعد وفاة الأب إلا أن تعاليمه لها بأن تظل تلك المرأة التى وشم على عقلها الخوف من كل مذكر، مازالت راسخة في نفسها الباطنة بينما تختلف الصورة في قصص ( غلطة .. عشق فقط .. مذكرات أنثى .. وجناحان ) فهى المرأة المتمردة  على الواقع الذكورى الذي يتفنن في وأد حلمها بديلا عن وئدها .. بينما في قصتى (نعيمة وسيدة) تعبير عن قهر المجتمع ذكورا وإناثا للمواطن الضعيف الذى لا يملك عقله.. وفي قصص ( السماء تمطر رجالا ، البيت المهجور، هجرة ، جنازة سارة جدا ، حبات التوت .. تتجلى صورة المرأة بين القضايا السياسية والإجتماعية .. أما قصة ( جناحان ) فالمرأة المتمردة التي تحاول الخروج على الأنماط السائدة من التفكير ( الذكورى ) أو المواريث الإجتماعية البالية من ضغوط وما يمثله الفقر والجهل من تفاعلات تحكم النظرة إلى المرأة من جهة وتحكم سلوك المرأة من جهة أخرى .
ولعل نسائي في مجموعة ( للنساء حكايات ) كن يحملن التمرد في كل تصرفاتهن ولكنه تمرد هادىء يتناسب مع طبيعة النشأة العربية التي زرعت داخلنا أطرا ووضعت عليها أصفادا.
حاولت في مجموعتي الثانية ( ربع رجل) أن أفك هذه الأصفاد وأحيلها إلى سوط لاذع وربما أرجوحة تهدهد الأفكار أحيانا .. لكنها في الغالب دفقة من العزيمة تشد على يدالقارىء .. وفي قصص ( الفئران تقرض ذاكرتي .. صمت .. لسان .. زئير .. لغة أخرى .. جنيه ذهب ) كان الرجل هو الذي يتصدر النص لكنه الرجل الذي يؤكد على أن فساد المجتمع في تلك الحقبة الزمنية وسقوط  كل من الرجل والمرأة فريسة للأمراض الاجتماعية والتراجع عن القيم والعادات، وقد جاءت القصص بشكل صياغي رامز عن تلك العلاقة الشفافة بين الرجل والمرأة وفي (ربع رجل .. أيس كريم مر .. ثوب أسود للزفاف .. سيريالية .. القطة .. مسافرة فوق الخطوط.. أربع سنوات تكفي .. شارب زوجتي ) تنوعت شرائح النساء بين المثقفة والعاشقة .. والأم الصغيرة .. أو الأخت التي تسافر فوق خطوط (الطباشير) متحدية تلك التأشيرات التي فصلوا بها حدود الوطن العربي.
إن نسائي في المجموعات القصصية يتعرضن لمشكلات إجتماعية وتربوية غاية في الأهمية منها مشاكل الاختيار عند الزواج والتفاعل مع المجتمع أو الحرمان من حق التعبير عن رغباتها .. وقد تكون المرأة المسيطرة التي تقهر الرجل وتمارس عليه إسقاطا نفسيا كقصة ( شارب زوجتي ) و( جنازة سارة جدا ) وقد جاءتا في شكل ساخر .. وكذلك ( رجولة أنثى ) والتي حاولت المرأة أن تسقط  كل مخزون القهر وتاريخه على الزوج الضعيف المستسلم لهذا القهر لكنه عندما يفيق ؛ يغادرها وللأبد.
ويعود التمرد .. لكن هذه المرة من خلال المبدعة عندما تمردت على الشكل الإبداعي في القصة القصيرة جدا وقمت بتقسيم المجموعة الثالثة ( الإنسان أصله شجرة) إلى ثلاثة اجزاء:
" هن " والتي ضمت المرأة المخادعة .. الخائفة من الهجر .. الغيور .. المجاهدة .. الشهيدة .. والمنتهك حقها كأنسان. وفي " تشكيل " والذي يدور حول المواقف السياسية والإقتصادية من خلال ( القادمون يسرقون الشمس ) ، ( امرأة من صبار ) ،( الإنسان أصله شجرة) وكيف أن المرأة رغم استبعادها عن المشاركة في الحياة السياسية لعقود زمنية إلا أنها استطاعت أن تعبر بقوة من خلال إبداعها إلى المتلقي لتشارك الرجل إبداع بإبداع .
أما القسم الثالث والذي جاء تحت عنوان ( الفقد ) :
وفيه ( أحلام مثلجة) التي ناقشت فيها غربة الإنسان عن وطنه وعن نفسه من خلال مشاعر المرأة التي تخاف الغربة وترفضها ، ( موسم رحيل العرائس) ، ( حبات من عقد الفل ) وهما أدب مقاومة وقمت بإهدائهما إلى شهيدات الوطن العربي في فلسطين والعراق .
تنوع الشخصيات في مجموعاتي القصصية كان تحديا لأن المبدعة المرأة وإن كانت محظوظة بحكم النشأة والثقافة إلا أنها لا تنفصل عن قضايا مجتمعها .

ثانيا المسرح :

أن أفكر في طرح عملين مسرحيين بعنوان ( نساء ماريونيت ) و (الصراحة لعبة النساء ) من خلال مجموعة من النساء وألا يظهر الرجل رغم أنه محور العمل على خشبة المسرح فهذا ليس موقفا من الرجل بقدر ما هو التحدي والتمرد على الشكل المسرحي فهذه هى المرة الأولى التي يقدم فيها عمل مسرحي كل بطلاته من النساء وكذلك الإخراج والديكور وكل ما يتصل بالعملية الإخراجية.
ولعلي أردت في هاتين المسرحيتين أن أناقش قضية الفصام الثقافي فقد اعتدنا أن الفصام إما نفسي وإما ذهاني .. ولكننا لم نعترف بالفصام الثقافي الذي أصاب العديد من المثقفين والمبدعين .. بمعنى أن المثقف قد يتحدث عن دور المرأة المثقفة وأهميتها في الحياة الثقافية وفي تطوير وتنوير المجتمع . إلا أن هذا الشعور ينقلب مئة درجة في حياته اليومية والشخصية ويغلبه حس الإمتلاك فيما يختص بنساء بيته أو ذويه وتتهاوى كلماته العظيمة عن الحرية والمساواة ويحل محلها العزلة والإمتلاك والغيرة المدمرة احيانا .. هذا فيما يتعلق بالرجل .. أما المتاجرون بقضايا المرأة فهم دائما يسببون لغطا قد يسيئ إلى من يفعل هذا عن وعى وثقافة.
هذا ما طرحته في مسرحية ( الصراحة لعبة النساء) وأردت من خلالها التأكيد على أن مشكلات المرأة العربية واحدة مهما اختلفت الثقافات والتيارات السياسية والفكرية في هذه البلاد.. فجاءت بطلات العمل من خلال التمثيل لنمازج متعددة من وطننا العربي .. مؤكدة أن حرية المرأة تنبع من ذاتها ولا توهب لها.
ولعل العمل الثاني ( نساء ماريونيت) أكد على نفس الفكرة والهدف وهو محاربة التناقض والإضطراب الفكري في حياتنا و إبداعنا .
فالجانب الواحد في التفكير يقودنا عادة إلى التعصب .. وعندما تكون النظرة متخلفة ومتعصبة (نموذجا) ضد خروج المرأة للعمل، وضد تعليمها وتثقيفها ، لابد أن ينعكس هذا في رؤية ومنهج تفكير المبدع الذي هو جزء من مجتمعه.
أما التعددية في التفكير فأنها تحمل قدرا كبيرا من الموضوعية والحرية والعدالة في الرؤية الإجتماعية وخاصة بالنسبة إلى المرأة لأن التفكير التعددي يجعلنا نرى المرأة من زوايا مختلفة فهى الأم العاملة والحبيبة والأخت والمثقفة والمتمردة والعاشقة والزوجة ... الخ.
وتنعكس هذه التعددية في التعبير الإبداعي وهذا ما حاولت نقله من خلال إبداعاتي وتنوعها .



ثالثا في الشعر:

لعل صورة المرأة في القصائد التي صغتها من خلال ديوان شعر (كافرة) أو (على جدار الروح) أو (احيانا محال) أو من خلال كتابي النثري ( وجع دافئ) هى المرأة العاشقة التي تعاني انفلات الرجل من دائرة عشقها واقعا أم خيالا أم خوفا من الخيانة .. المرأة لدى في أشعاري (كافرة) بكل ما هو غير الحب .. بداية من الحب الأصغر حب المرأة للرجل ونهاية بالحب الأكبر للوطن الذي بات غافيا في حضن الخوف .
المرأة في أشعاري ترفض التلاعب بمشاعرها ورغم انصهارها في محبوبها إلا أنها تدافع عن كبريائها.. وهذا الكبرياء لا يتجزأ عن كرامة الوطن الذي تدافع عنه بكل روحها.   

رابعا الرواية:

في رواية ( بنات الحاج) تناولت أجيال من نساء عائلة الحاج شاهين ومن خلالهن غصت داخل أسرار المجتمع الريفي بكل أبعاده وشخوصه .. (فملك ) بطلة الرواية تمردت على الثروة ومرادفها الموضوعي الظلم وانتصرت للحب بعد أن عرت هذا المجتمع المختبىء خلف سطوة المال والجاه . رافضة الاستسلام لنموذج شخصية العمة الكبرى التي ركضت خلف الخيال ولا العمة الثانية التي استسلمت لرجال العائلة .. ومن خلال الثلاثة نماذج تعرضت لتاريخ المرأة الإجتماعي في قرية مصرية هى نموذج لمصر بكل قراها ومدنها.. ومؤكدة من خلال هذه الرواية على أن الرجل والمرأة هما افراز لتركيبة اجتماعية متفاوتة .. بل اختلاف المعطيات والحقوق للمرأة في وطننا العربي ،يقدم لنا صورة متغيرة لها.

خامسا الدراسات:

لعل الصورة اختلفت عندما أردت إبراز صورة تلك المرأة في عيون الرجل الزوج الشاعر ، فجاءت دراستي المتبحرة في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي .. حتى وقتنا الراهن من خلال كتابي( في هجاء الزوجات) الذي رصدت فيه سمة تعد في ظاهرها حربا رجالية ضد المرأة ووجهة نظر وحيدة .. لا يرى فيه من المرأة الزوجة إلا كل العاهات الشكلية والعقلية والوجدانية من قبح ونكد وخيانة ونشوز وغباء وجشع .. وكأن هذا الرجل الهجاء أراد أن يسقط كل عيوبه على المرأة الزوجة، وإن كنت أنا لم أدع المرأة مجرد هدف تلقى عليه السهام .. بل بحثت في كتابي هذا عن أسلحة الردع النسائية وردود المرأة الزوجة على زوجها الشاعر الهجاء .. فكانت المفاجأة أن المرأة قادرة على الهجاء إلا أنها لا تفعل ربما لأن الرواة كانوا من الرجال في العصور الأولى وربما لأنها قدست الرجل لفترات طويلة .. فكان الزوج بمكانة الأب. . وهذا ذنب آخر يضاف للجرائم النفسية التي ارتكبت بحق المرأة.

هكذا تنوعت كتاباتي عن المرأة في كل الأشكال الإبداعية .. ما الفرق بيني وبين أي مبدع رجل وهو يتناول مثل هذه المهام والطبائع المسندة إلى المرأة؟
الفرق هنا عمق التناول والمعايشة والخبرات الخاصة والثقافة الذاتية التي أظنني قد نقلت فيها هذه الشخوص وهذه الحالات المرتبطة بالمرأة من العمومية إلى الخصوصية بحيث بدت هذه الشخصيات النسائية لمن يطلع على إبداعاتي كائنات حية نامية متحركة حتى أن بعض القراء ألبسوني بعض هذه الشخصيات ولكنني أكدت أنني لست أية واحدة من هؤلاء جميعا وفي الوقت نفسه أنا وحدي كل هذه النساء .                                                                                            

المسرح وعبقرية النديم


المسرح وعبقرية النديم
                                           هالة فهمي



هل يعد عبد الله النديم عبقريا ؟
هذه الإجابة تتوقف على تعريف العبقرية كما عرفها د.أحمد عكاشة في كتاب ( تشريح الشخصية المصرية ) حينما أكد أن العبقرية هى معدلان الذكاء والقدرة على تغير المجتمع.. فالعبقرية هى محاولة لتخليص المجتمع من بعض المتناقضات في أحد ميادين النشاط الإنساني وإذا تحدثنا عن العبقرية الفنية والأدبية تحديدا سنجد أن العبقرية الفنية في جوهرها الإجتماعي ماهى إلا محاولة للتغلب على التناقض القائم في أمور التذوق والقيم الفنية للأشياء .. أى إحداث تغيير في أذواق الناس وفي وجدانهم.

ولقد اعتبرت النديم عبقريا لأنه حرص على تقديم انتصاراته للإنسانية في مجالات شتى. والعبقرية نفسها درجات .. أعلى درجة فيها تصل للجنون وهذا ليس مجالنا ولا مكانه .. إنما نتحدث عن العقل المتميز الناقد الذى يترك بصمته على هيكل البشرية ويحفر اسمه داخل وجدانها وهذا ما فعله النديم بتعدد موامبه ويمكن أن ندرك ذلك من خلال سماته ومزاجه وذكائه وشخصيته :
-       إما بطريقة ارتقائية من الطفولة إلى مراحل عمره المختلفة.
-       وإما بدراسة عملية لجغرافية الشخصية المزاجية وتعامله مع الآخرين.
-       وإما بالقياس التدريجي لأعماله وانجازاته.
وقد أكد د. عبد المنعم الجميعي في كتابه ( الندم المناضل الثائر) أن النديم لم يعط حقه في الدراسة لأن الدراسات أهتمت بالثورة العرابية وزعيمها أحمد عرابي مما طغى على دراسة شخصية النديم الذى كان يمثل هذه الثورة في نواحيها المتعددة فكان الداعية الأكبر لها وخطيبها الذي مهد لها ووقف معها في أحلك الظروف .. وقد تنوع عطائه بين إنضمامه للعسكرين ودوره في حادث قصر عابدين ومظاهرة عابدين ، ثم تشجيعه على انشاء جمعية الشبان بالأسكندرية لتكون ركيزة للثورة ، ثم مرحلة نفيه وعفو الخديوى عباس الثاني عنه .. لكنه عاد لمزاولة الكفاح مما جعل الاحتلال يشعر بخطورته فطاب الخديوى بنفيه ثانية فتخلى عنه الخديوى.
ثم بدأت رحلة هروبه ومناداته بفكرة القومية ومبدأ "مصر للمصريين" والوحدة الوطنية .. وتجيشه للعقل المصرى لفكرة الجمهورية .. وقد استطاع النديم نشر هذه الآراء في عدد كبير من ابناء الوطن.
لم تتوقف انجازات هذا المناضل عند العمل السياسى فقط وإنما حرص على أن يكون له دور في الإصلاح الإجتماعي أيضا .. فكان يحارب الشعوذة والمشعوذين، والإحتيال والكذب والخرافات والبدع وتقليد الأوروبين ومحاكاتهم دون وعى وخاصة في القمار والخمر والدعارة .. ومحاولته نشر وعى العدالة الإجتماعية.
وقد جاهد النديم في رافد آخر وهو الإصلاح التعليمي بشقيه المدني والأزهري ودافع عن اللغة العربية وتصديه لكل من حاول المساس بها وخاصة مع انتشار لغة المحتل ومحاولته لتغيير اللسان المصرى من العربية إلى لغته كما حدث في دول أخرى.

مهارات النديم الأخرى:

برز النديم خطيبا مفوها وعمل في مجال الصحافة والمسرح بالإضافة للرؤية البانورامية التي قدمتها حول حياته وتنوع انجازاته وثقافته .. فإذا ما عدت إلى سماته وأسباب تميزه والتقسيم الذى ذكرته وهو تكوينه في مراحل حياته فقد ولد النديم بالأسكندرية في عام 1843  ميلاديا وقد نشأ في أسرة كادحة فقيرة، فوالده خباز بسيط تربى ،النديم على الكفاف مما جعله يشعر بآلام الناس ، تعلم في كُتاب الحي وحفظ القرآن في سن التاسعة ولفقره لم يذهب للأزهر فدرس في جامع (الأنوار) الفقه والتوحيد والمنطق والعلوم اللسانية والنحو والصرف .. ثم خرج للشارع بعد ذلك وهناك كانت جامعته وحياته الواقعية فأغترف من الأدب ونوادر الظرفاء .. ارتاد المنتديات التى كانت تقام في بيوت الأثرياء وفي محلات التجار المحبين للأدب .. ثم ترك الأسكندرية وجاب القرى والمدن.
تنوعت اعمال النديم فمن عامل تلغراف في بنها إلى حياة القصور عندما عمل موظفا في قصر خوشيار خانوم والدة الخديوى إسماعيل مما جعله يقارن بين حياة الشعب من بؤس وشقاء وفقر  وبين الأغنياء من ترف وبذخ وبهرجة.. مما كان له أثر كبيرفي كتاباته . ومن هنا نتسلل للكتابة المسرحية عند النديم.
عرف عن المسرح أنه أبو الفنون وأن العمل به يحتاج إلى ثقافة متنوعة، فليس كل مبدع قادرا على الكتابة المسرحية التي تستفيد من كل الفنون كالقصة والرواية والشعر والفن التشكيلي .. انه عمل شامل سواء في الكتابة أو في تحويله إلى لعبة مسرحية تمتع المشاهد.وقد عرف النديم العمل المسرحى بأنه: (فن بديع يقوم على تهذيب وتوسيع أفكار الأمم.. وإخبارهم عن الوقائع التاريخية والتخيلات الأدبية وهو يقوم مقام استاذ يقف أمام تلامذته يلقنهم العلم بما تألفه نفوسهم وتميل إليه طباعهم .. وقد رجع هذا الفن إلى العرب منذ القدم ثم نقله عنهم الأوروبيون عند مخالطتهم لهم في الأندلس والشام)*
وقد اختلف د. عبد المنعم الجميعي  مع هذا الرأى مؤكدا ( أن العرب لم يعرفوا فن المسرح والتمثيل منذ القدم .. وإنما ما يقصده النديم هو: المنشدين والمغنين أو روايات ابن دنيال الموصلى المسماه بطيف الخيال أو خيال الظل كما اسماه المصريون واسماه السوريون الكركوز. وإنما يعتمد النديم نظرية تعيد كل شئ إلى أصول عربية واعتبار الشرق معلم أوربا وإليه يرجع الفضل في نهضتها )*
ويؤكد " الجميعي" أننا لم نتوارث المسرح لا عن الفراعنة ولا العرب فمجتمعنا لم يعرف الأدب المسرحي إلا بعد أن اتصلت مصر بوسائل الغرب الحضارية اتصالا وثيقا.
ورغم أن النديم لم يتقن أى لغة أجنبية ليستطع بها الإطلاع على المسرح الأوروبي فإنه استطاع أن يكسب قدرا من الثقافة المسرحية عن طريق مشاهدته لمسرحيات "يعقوب صنوع" كما تأثر بالفرق الشامية التي وفدت مصر وخاصة فرقة "سليم النقاش" التي عرضت الكثير من أعمالها على مسرح زيزينيا.
وقد كتب النديم روايتين قدمهما للمسرح هما رواية ( الوطن وطالع التوفيق) و(النعمان) تناولت الأولى أحداث الظلم والفساد في المجتمع المصرى وقد كتبت بالعامية والفصحى بحيث نطقت كل شخصية بما يناسبها . ثم كتب الرواية الثانية وملأها بالبديع والبيان وأظهر فيها فضل العرب وما أتوه من العجب .. ولا يوجد من هاتين المسرحيتين إلا فقرات من رواية (الوطن وطالع التوفيق) وقد نشرها شقيقه عبد الفتاح النديم تحت عنوان (سلافة النديم).
حاول النديم في عمليه أن يرسم صورة ناطقة واضحة للمجتمع المصرى الذى أفقده الأستبداد إرادته .. وقد تنوعت شخوصه بين سكان المدن والقرى من فلاحين وصيادين .. انتقد اسلوب رجال الحكومة في جمع الأموال وإنتشار الرشوة وطالب النديم من خلال مسرحه بالتعاون لمحاربة الفساد من خلال إنشاء الجمعيات التى تحميهم وتقف إلى جوارهم في أزماتهم. ثم صور الأغنياء بالبخلاء وقام بمدح الخديوى ووضع الأمل بين يديه في إصلاح المجتمع.
ورغم أن الروايات تنقصها الحبكة الفنية كما ذكرت المصادرإلا أنها إلا أنها قدمت بخفة ظل النديم .. وقد قدم تلامذته مسرحية (الوطن وطالع التوفيق) على مسرح زيزينيا الذى يعد من أكبر مسارح الأسكندرية في ذلك الوقت وقد حضرها الخديوى ورجال الحكومة.
نبهت المسرحية الأذهان إلى العيوب التي يعانيها المجتمع المصرى أنذاك وما يتحمله الأهالى من ظلم . ورغم مدح النديم للخديوى إلا أنه لم يمدحه إلا ليقول له بأن الأمل بين يديه لإصلاح ما فسد ورفع الظلم الواقع على كواهل رعيته وأن محاربة الحكومة إنما هى محاربة للمستعمر المستبد الذى يسيطر على الأحهزة الحكومية. ويعد هذا من ذكاء النديم فهو يدرك أنهم من يتحكم في مقدرات الشعب وأن تذكيرهم بدورهم أولا قد يثمر وبهذا لا يحارب في جبهتين الإحتلال وأولي الأمر.
وكما ذكرت في البداية أن المسرح يحتاج إلى خبرة كبيرة ومعرفة لاتتوفر إلا لمن ينقطع لدراسته وتجربته حتى يبدع عملا خالدا وعدم إجادة النديم للحبكة المسرحية وازدحامها بالكثير من الشخصيات وارتباك دخول وخروج الشخصيات على الخشبة إلا أن الأسلوب الساخر عوض ذلك وخبرته الكبيرة فيما رأه وشاهده من ترحاله وتكوينه النفسى وتنوع ثقافته .
وقد رأى البعض أن مسرحيات النديم الغرض منها هو الإصلاح الإجتماعي .. لذا جاءت في شكل عظات وخطب يصب فيها ما أرقه مما شاهد اثناء مرحلة هروبه وكفاحه .. وهو بذلك خالف ما كان سائدا في المسرح أنذاك من ترفيه وترويح عن النفس من خلال ما يقدم من مسرحيات هزلية الغرض منها الهروب من الواقع.
ولكن النديم الذي خاض في كل المجالات كانت له رؤية أخرى سواء في مسرحه أو خطبه أو إبداعه بشكل عام .. لذا لم يبخل باستخدام كل الوسائل لإيقاظ ابناء الوطن مما سقطوا فيه .. والمسرح كان أحد هذه الوسائل التى حاول من خلالها أن يبرز مساوئ المجتمع المصرى السياسية والإجتماعية .. وهذا ربما لإيمانه بأن الفن قادر على تغيير الشعوب وهو مرآة الواقع الصادقة والناطقة.

ومع هذا التنوع الإبداعي ومن هذه الخبرات سواء اجتماعية،سياسية،عسكرية، أو أدبية وفنية، أستطيع القول بأن النديم يحمل سمات العبقرية الفنية والأدبية .. هذا الرجل الذى حفر اسمه بحروف من حب الإنسانية وتخليدها له .. ولا أدل على ذلك من هذا الملتقى الأدبي الكبير الذى يحمل اسمه ويحتفي بإنجازاته .. والذى اجتمع حوله كل هؤلاء الأدباء والمفكرين والمخلصين من ابناء هذا الوطن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عبدالله النديم المناضل الثائر،تأليف د.عبدالمنعم الجميعي/طبعة المجلس الأعلى للثقافة 2009.
* نفس المصدر.
**************************
واسمحوا لى أن أتقم بالشكر والتقدير لكل من : د. أشرف ذكى رئيس الهيئة المصرية للبريد .. والأستاذ على هاشم رئيس مجلس إدارة دار التحريروأخص بالشكر والتقدير صاحب الإختيار وصاحب هذا الجهد المبذول لإنجاح هذا الملتقى الشاعر والكاتب المسرحي والزميل الصحفي حزين عمر وفريق عمله لهم مني جزيل الشكر والتقدير.

مالم يقله قصيد.. فاطمة بن محمود

مالم يقله قصيد.. فاطمة بن محمود

بقلم: هالة فهمي
 
      إذا كان الصمت أبلغ من الكلام.. فقد طبقت الشاعرة التونسية فاطمة بن محمود والتي تعيش في تونس العاصمة.. هذه المقولة في ديوانها الصغير جدا قطعا وعدد صفحات .. الكبير جدا قيمة وفنا، وأعتقد أن كل قصيدة في هذة المجموعة الشعرية؛تثير مجموعة إشكاليات .. تطرح العديد من الرؤى في لغة شديدة التكثيف..فقد أرتكنت النصوص على مثلث شديد الأهمية هو البساطة والعمق والنص المفتوح والذي يتراءى للقارىء أنه كلام عادي إلا أنه مع عمق القراءة يكتشف خدعة الشاعرة ، بأن هذا الكلام العادي ما هو إلا قناع يخفي المسكوت عنه وأن الصمت لدى الشاعرة ما هو إلا غوص في الأعماق وتحليق في سموات مفتوحة .. وعندما نقول بساطة لا نقصد التسطح .. بل البعد عن التغريب بكل أشكاله .. مفردات ومعاني..وسمتا جماليا.

      تنتمي المجموعة لشعر الهايكو .. والهايكو هو نوع من الشعر الياباني يحاول فيه الشاعر من خلال ألفاظ بسيطة ؛ التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة، وتتألف الهايكو من بيت واحد فقط مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا باليابانية،وتكتب عادة في ثلاثة اسطر قد تزيد. ينحدر الهايكو من الشعر القديم ويعد أكثر رونقا وإرهافا من باقي الأجناس الأدبية .. عرف الهايكو في البداية بين الأوساط المثقفة وكانت أصول هذا الفن تعود إلى مباراة شعرية يقوم فيها شخص بإلقاء بيت من الشعر على أن يقوم الباقون بتكملة بيتين.. ثم أنتشر بعد ذلك بين العامة في القرن الـ17م – والقرن الـ18م .. يقدم الشاعر صورة شعرية تعتمد على استلهام مظاهر الطبيعة وربطها بأحاسيس وروح وآلام الإنسان..وهذا النوع ليس غريبا على الشعر العربي فهناك قصيدة


الومضة التي تعتمد على التكثيف الشديد و كما الآبدة في النثر العربي.

      وفي هذه المجموعة الشعرية (ما لم يقله القصيد) قسمت الشاعرة المجموعة إلى خمس تقسيمات هم "على مقربة من الحب" "في باحة الروح" "حزو المشهد" "الحديقة السرية" "النافذة الأخرى" ويضم كل عنوان مجموعة من القصائد التي تستلهم فيها الشاعرة مظاهر الطبيعة وتقوم بتضفيرها بمشاعر إنسانية نابضة .. تقول على سبيل المثال في قصيدة "مشهد حب":

في غفلة من الشمس التي
غابت منذ .. حين
أرتمى القمر في حضن
البحر
وتعالت شهقات .. المحبين.

الشاعرة هنا عمدت إلى ظاهرة أنسنة الأشياء .. فهى تصبغ على ثلاث ظواهر طبيعية ( الشمس - القمر – البحر ) خصائص إنسانية مثل الحب والعشق والشهقات ،بل والتربص والغفلة ..كلها أفعال تنم عن حركة وتفكير وتدبر.. وتراسل الفنون مع الطبيعة ليس بالجديد ولكن كيف توظف هذا التراسل.. ؟ هذا هو السؤال الأهم.
وفي قصيدتين تفلسف فيهما الشاعرة عمق العلاقة بين الكائنات.. تقول في الأولى بعنوان "حوار أول":

قال البحر للنهر
توسّع مجراك
ولن ... تشبهني.
قال النهر للبحر


لولا قطري
لما كان ماؤك
فصمت البحر.
وفي الثانية بعنوان "حوار ثان" تقول:

قالت السمكة للبحر
أنت جميل ..بي
قال البحر للسمكة
أنت حية بمائي
فعلقت به.

في مرادفات بسيطة لاتعمد للتعقيد أو التقعر عبرت عن جدلية الحياة وسر الأحتياج والروابط بين الكائنات ، وقد جاء أختيار العنوانين موفقا .. فكأن الحوارات ممتدة بين الأشياء والأحتياج ممدود بين كل ما في الكون وقد يكون هناك حوار ثالث ورابع وإلى مالانهاية .. فما دمنا أننا نحيا فنحن دائما نحتاج لبعضنا  والأحتياج لدى فاطمة بن محمود ليس الأحتياج المادي فقط ، بل الروحي أيضا وهذا ليس غريبا على شخص الشاعرة فمن يبكيها بيت شعر في قصيدة ؛ ترسل الروح للمدى بحثا عن المعنى .. تقول في قصيدة "عشق":

ما أروع الذي .. تهواه
ترسل الروح .. تلامسه
وتغمض عينيها ... تراه.

هى هنا توظف مالا يوظف.. حيث تتحكم في الروح فترسلها – مجازيا- حيث الحبيب فتلامسه هذا التلامس الشفيف الذي يليق بقدسية الروح التي علمها عند ربي وهى أيضا تجعل العين مبصرة وهى مغمضة .. تبادل الخصائص كان لتأثير هذا المعشوق على


نفس المحبوب .. ومفردة الروح لدى الشاعرة متكررة حتى أنها تفرد لها قسما يحتوي على مجموعة من القصائد اسمته في "باحة الروح" جمعت فيه كل ما يتصل بروحها الشاعرة ففي الأولى إبداعها والذي تشرق شمس يومها إذا كتبت فيه قصيدة.. تقول في قصيدة" فرح" :

هذا الصباح حزين
والوجوه كئيبة
هذا المساء موحش
والخطى .. شريدة
هذا اليوم يشرق
لو...
    أكتب اليوم قصيدة.

وتضم باحة روح الشاعرة أيضا مشاعرها الفياضة نحو جزء نابض منها .. فلا ينافس القصيد إلا الأمومة الطاغية لديها فالأبن عندها -أصفى من قطرة ضوء- وتشهد أنه هو .. النبي – والأبنة لديها – هى الزمن الغائب- هى وعد الإله- ثم تعود بنا الشاعرة للقصيدة حين تقول عن ابنتها:

هذه الطفلة .. دهشتي
كوكبي
البيت في .. قصيدتي
فتحت أبواب روحي
وأنجبت أمومتي.

إذن في باحة روح الشاعرة فاطمة وهنا لا إنفصام بينهما فالشاعرة متوحدة مع نفسها .. لا تكتب عن الآخر بقدر ما تصيغ مكنونات


روحها .. الأمومة والقصيد هما الفرح في حياتها فاليوم مشرق لو هناك قصيدة والأطفال هم أبيات القصيد عند فاطمة بل هم الذين أنجبوا الأمومة بوجودهم .. وهى هنا تعود بنا لتلك العلاقة الفلسفية بين الكائنات .. فلولا الأطفال ما كانت الأمومة ..وباحة روح فاطمة ليست مسكونة بالبحث عن بيت لقصيدة أو مشاعر الأمومة الفياضة فقط بل هى مسكونة بهم رابض بين الروح والجسد هموم البسطاء والمهمشين والمحرومين من أبناء الوطن .. هذا الوجع الإنساني الذى عبرت عنه في قصيدتها"غربة":

يغيظني أن تتبول القطط
على خبز يمكن أن يؤكل
اه .. يتكوم في حلقي
شجن..
إلى أخر أن تقول:
أحب أن أنتقل إلى بقعة ما
ربما .. أحب هذا الوطن.

ورغم النهاية المؤلمة لتلك القصيدة والتي تشكك فيها الشاعرة في درجة حبها للوطن إلا أنها نهاية كاذبة غاضبة كالأم التي تغضب من طفلها فتقول كما قالت الشاعرة المصرية جليلة رضا :
أهواك حب الأم لأبن مجرم.
فحب الأم لأبنائها لا يُختلف عليه .. هكذا تحب فاطمة بن محمود وطنها.. ولهذا فقد أكدت رأيها أو غضبها من هذا الوطن الذي جاع فيه الشرفاء وبالت قططه على خبزهم ولم ينصف الأوفياء منهم.. وعادت تؤكد على حبها له رغم كل شىء في قصيدتها التالية "أجمل حب" تقول:

هذه البلاد .. لي


ولا تسع حلمي
هذه البلاد... لي
ولا تشبه رسمي
هذه البلاد... لي
نجمة تتفتح
وهلالها يسبح.. في دمي
هذه البلاد...لي.

ولا تغرق الشاعرة أبياتها في الذاتية وإنما تنتقل للهم العربي الموحد ثم الهم الإنساني بعمومه ويظهر ذلك جليا في القسم الثالث"حزو المشهد" الذي تتجلى فيه الدلالات النفسية للبحث عن الحرية فتأخذنا معها إلى رمز من رموز الدفاع عن الحرية في قصيدتها"جاك بريفار... كم أحبك" واختيارها لجاك بريفار ليس اختيارا مسطحا بل عن وعي .. فهو شاعر الشعب بلا منازع في تلك الفترة الزمنية .. أحب الحرية ودافع عن هموم الناس اليومية .. كان له موقفه تجاه الفقراء والمضطهدين من خلال أفلامه ومسرحياته وأشعاره التي أنتجها.. كان بريفار يتحرك بقوة منحازا لطبقة العمال والفلاحين لثقته الكبيرة في قدرة الشعب على التغيير.. ولهذا أصبح من أشهر شعراء فرنسا محليا وعالميا..واختيار الشاعرة له لم يأتي تقليدا أو إنبهارا فقط بل تواصلا وأمتدادا  لعاشق ممن عشقوا الحرية ودافعوا عنها.. تقول عنه :

كم أحب هذا العصفور
كم يلذ لي صوته المنشرح.

والمشهد الذي تعنيه الشاعرة فاطمة بن محمود هنا ليس مشهدا وحيدا لكنها حرية العقل والروح والقلب.. يتضح ذلك جليا من خلال تنوع النصوص كما في"العصفورة" "الصياد الأعمى" "الدرس"


وغيرهم .. وقد امتلأ هذا التقسيم بالعديد من الرموز الفكرية والإبداعية .. مثل نيتشه الفيلسوف الألماني والذي يبدو تأثر الشاعرة به وبأفكاره ثم هناك جاك بريفار والهادي الدبابي والتشكيلية نبيهة قريع .. والشاعرة هنا لا تستدعيهم إستعراضا لثقافتها وموسوعية معرفتها وإنما هي تستدعي مواقفهم وأفكارهم .. هي تسترجع المشهد في ذاكرتها.. هذا المشهد الذي أنهته بقصيدة"عبث"وكأن لسان حالها يقول كل هذا الكفاح في زمننا هذا أصبح عبثا..تقول:

على السبورة السوداء
كتب المعلم تاريخ اليوم
بخط واضح و...معتاد،
تأمل التلميذ ذلك جيدا
لم يكن هناك أي لون
ينسجم مع تاريخ اليوم
غير... السواد!
لذا لا حاجة للدرس.

       ورغم هذا الألم إلا أن الصورة ليست قاتمة ولا تدعوا للتشائم خاصة عندما تصحبنا الشاعرة وتنقلنا إلى حديقتها السرية .. وهذا هو القسم الرابع من تقسيمات هذه المجموعة ،والتي تستهلها بالعودة للبراءة .. وربما للهروب لأزمنة جميلة ولت بكل دهشتها .. فها هى تعود لبراءة الطفولة الأولى بقصيدة تحمل عنوان "براءة"تسترجع فيها ذكريات الدرس ومشاغبات التلميذة التي لا يشغلها همٌ تقول الشاعرة الطفلة :

وأنا تلميذة
في القسم
ينشغل المعلم


بمسألة الحساب
أو شرح نص؛
وأنشغل أنا
بالنصف الأسفل من السبورة
حيث ضوء الشمس
من النافذة ينعكس؛
فيرف القلب
فرح طفولي
يوشك رنين .. الجرس.

هذا العقل الطفل الذي لا يشغله إلا رنين الجرس وشمس ترسم حدود حلم ضيق يتقافز تحت امتداد الدرس .. تراها الرغبة في الهروب من المعرفة؛ تلك التي تؤرقنا فيما بعد فنهرب منها بالذكرى الطفولية البريئة ولو لحين.. ومن البراءة إلى "الحاء" هذا الحرف الذي تناشد الشاعرة أبنها أن يتعلمه بقوة لأنه بداية للحياة .. تقول:

يا ولدي ستحتاج الحاء
كثيرا
لو تغير البلاد اسمها
وتصبح .. الحب.

لقد وصلت الشاعرة هنا طفولتها بطفولة أبنها وهو امتداد لها وتواصل تحرص فيه على نقل ما تعلمته وبثه في ثنايا روحه وكان هذا الدرس هو أبجدية الحب – أكتب الحاء جيدا /هي بداية حلم جميل – ثم هي تأخذ طفولتها البريئة وطفولة أبنها ليتواصلا مع الأم والجدة في حالة دفئ جميل تقول قصيدة"تبرك" :

أذكر مساء الإثنين


والجمعة
هذه الليلة –تقول أمي-
مباركة للنذور،
وتنفض دعواتها
في الموقد
فتتصاعد .. رائحة البخور.

وما بين جرس الطفولة في المدرسة وجرس الأستاذة المعلمة يختلف الصوت ويختلف الحلم ..فهى في قصيدة "نستالجيا" تقف في الفصل المدرسي لكنها ليست تلك الطفلة التي تداعب الشمس في النصف الأسفل من السبورة هى الأن منشغلة بالنصف الأعلى هى الأستاذة المعلمة وعليها إعطاء الدرس.. لكنها تتطلع للوجوه تتمني لو يعود بها الزمن قليلا لتتخلص من وجع المعرفة وجع العجز البشرى أمام قهر الإنسان لنفسه .. لو يعود الزمن قليلا لعادت تلك الطفلة السعيدة .. التي تتمنى رنين الجرس.. ويرن الجرس لكنه رنين مختلف رنين أيقظها حتى من الحلم اللذيذ .. تقول :

لو يعود الزمن قليلا
          يرن الجرس الآن
                تستفيق المُدرسة
                من تداعي ... الأمنيات.

إلا أن الأستاذة تستفيق بدرس غاية في الأهمية والعمق وهو درس تجاهلناه في زحمة الحياة  - ما أستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط- تؤكد فاطمة بن محمود أنه ميت أيضا حيث تقول في تناص مع النص القديم في قصيدة "الموت" والعنوان هنا إجابة على سؤال يطرحه النص كأنها تقول ماذا يحدث لـ :

رجل ... بكل شطط      
يحب الحياة
لنفسه ... فقط .

ورغم النهاية الحزينة لهذا القسم والذي تبكي فيه الشاعرة على موتها المعنوي في أحد قصائده .. وهى تبكينا أيضا فقمة الإبداع أن يتوحد الشاعر مع المتلقي فيصبحان واحدا لا ينفصلان.. فمن يقرأ قصيدة ذبول يتوحد مع الشاعرة التي تبكى على جسدها المسجى وترتيب قصيدة "ذبول" بعد "الموت" ترتيب منطقي فإذا كانت نهاية الرجل وموته يكون عندما لايحب الحياة إلا لنفسه فقط  أي عندما تشيع الأنانية .. فموت المرأة يكون بذبول عطائها .. لأن المرأة لا تنضب عن العطاء بشكل كامل إلا عندما تموت فالأمومة شىء فطرى ..والأمومة والعطاء وجهان لعملة واحدة.

     ورغم هذه الحالة اليائسة إلا أن الشاعرة مازالت تحلم فهاهى تطل علينا من نافذة أخرى في القسم الأخير من المجموعة والذي حمل عنوان"نافذة أخرى" تقول في "استراحة":

شجرة الخروب تتحمل
قيظ الهاجرة
لتمنح ظلها.. للعابرين.

وتقول في "ألفة" :
عباد الشمس
يمد وجهه للأشعة
المحرقة
يقي نملة تحته ... تستريح.

أنظر معي دلالة المعنى في النصين فالعطاء هنا بلا مقابل .. ولا ينتظر المقابل .. لأن العلاقة بين الأشياء هنا علاقة النقيضين ؛ فعباد الشمس يقي نملة تحته .. وشجرة الخروب تتحمل قيظ الهاجرة لتعطي ظلها لأي عابر سبيل.. العطاء في المطلق إذن هو الظاهر ..أما المسكوت عنه ( فكن جميلا ترى الوجود جميلا ) .. وتأمل معي النص الآتى لتدرك المعنى في "حنين" تقول :

في مدن الشمال
يبدو النخل شاهقا
أكثر من اللأزم
ليطل على .. الصحراء.

هذا النخل السامق لا يكتفي بمن يمنحهم ثمره وظله .. بل يهفو للتوحد والتواصل مع جنس آخر من أجناس الطبيعة ، الصحراء حيث قمة الفناء والنخل رمز العطاء .
إن فاطمة تحيلنا هنا إلي حالة من التواصل الكوني بين الكائنات الطبيعية .. هذا هو الظاهر .. أما الباطن فهو دعوة الفيلسوف الذي يروي لتلاميذه درسا رمزيا ليدفع بهم للدرس الحقيقي المباشر.. ويتجلى هذا عندما تطرح نصها الختامي والذي لا أظن ترتيبه هذا جاء محض صدفة .. إنما عن قصدية جلية وهي تأملها لتلك العلاقة بين المخلوقات المسالمة كالطير وبين البشر.. هنا تناص مع التراث
فكما أخذنا نحن أبناء أدم درسنا الأول من طير وهو الغراب الذي علم قابيل ابن أدم كيف يوارى سوأة أخيه بعد أن أرتكب أول جريمة على الأرض وعجز عن دفن أخيه .. فهاهى ذي الطيور تعلمنا درسنا الأخير ؛ وهو رغم حسد البشر للطيور على الحرية التي لايتمتع بها هؤلاء البشر ..إلا أن الطيور تغرد لهم!!
هذا البعد الفلسفي في القصيدة وعمق المغزى .. المسكوت عنه هنا يضع علامات أستفهامه .. هل هذا الحسد ممتد منذ علم الغراب في صمت درسه الأول لهذا الإنسان الذي قتل أخاه حسدا أيضا لكونه محبوبا أكثر ؟اسئلة كثيرة يطلقها العقل حين يفكر .. خاصة حين تتأمل العناوين وتجدها في هذا الجزء تتكون من حنين وألفة وحرية ..كلها نوافذ أمل تؤكد أن الشاعرة لم تغلق عليك الدائرة لكنها فتحتها منذ اختيارها لهذه التقسيمة التى لو قرأتها في جملة مفيدة لوجدت الآتي :(على مقربة من الحب تجولت في باحة الروح حزو المشهد لأصل للحديقة السرية لأفتح لك نافذة أخرى).

     من خلال استرجاعنا لقصائد المجموعة ومن عنوانها علينا أن نطرح سؤالا .. أين إذا مالم يقله قصيد فاطمة بن محمود؟ إن مالم يقله أكثر بكثير ..فهي هنا تفتح أمامنا الرموز وتتطلق لك حرية الأحساس والتفكير وهذا ما نستدل عليه من العنوان( ما لم يقله القصيد ) القصيد هذه اللحظة الكاشفة المكثفة التي يعيشها المبدع .. وهى من أصفى وأصدق اللحظات التي يعيشها على المستوى النفسي والعقلي معا .. فالقصيد هو خلاصة ما يفرزه الشاعر من عشق أو هم .. وجع مقيم بين الضلوع .. أو بهجة تحلق نحو الغيم .. الإبداع بصفة عامة هو لحظة الحرية الأكيدة في حياة المبدع.
كما يبدو البعد الفلسفي واضحا جليا على المجموعة الشعرية ففاطمة تعري المجتمع من خلالها فهي تضع النقاط فوق الحروف وتفرغ بين المسافات تاركة للمتلقى فرصة أن يضيف من همه الخاص ويهدم ويبني لكن ليس في القصيدة إنما في أفكاره ذلك لأن الشاعرة لم تعطه الفرصة للمساس بأبياتها لأنها صاغت فكرها بلغة شفافة هامسة معبرة.
إن فاطمة بن محمود قالت في المسكوت عنه : أنا جزء من كل ..فإذا كان هذا همي وحالي في وطننا العربي ..فما بال الكل ؟! بهذا العمق الفلسفي الذي عمدت إليه من خلال حالة التواصل وحالة العلاقة الجدلية بين الأشياء لديها عبرت عنا فاطمة لهذا نقول أن مالم يقله القصيد.. هو تلك المساحة والفضاء الذي تتركه الشاعرة لريشتنا لنكمل المشهد .. الشاعرة لا تتقن إلتقاط اللحظة الشعرية فقط بل هى تعبر عنها حين تستدعينا بهدوء وعمق الفلاسفة إلى حيث تبحث أنت عن المعنى ..عن المسكوت عنه.. عن علامات استفهام بطول المجموعة.. وعندما ستعرف الإجابة ستصل إلى مالم يقله القصيد.