جماليات الكُفْر والخيانة في ديوان هالة فهمي
بقلم: أحمد فضل شبلول
"كافرة" الديوان الأول للشاعرة والقاصة والكاتبة الصحفية المبدعة هالة فهمي، صدر مؤخرا عن سلسلة "كتاب الجيل" (العدد 12). ولعل أول ما يصدمنا في هذا الديوان ـ باعتبارنا مجتمعا يؤمن بالله ورسله وكتبه وملائكته ـ عنوانه "كافرة" الذي قد يثير حفيظة القارئ لمعرفة أي نوع من أنواع الكفر تقصده الشاعرة، ومن هنا فإن القارئ سيذهب فورا إلى القصيدة التي عنونت بها الشاعرة ديوانها، ليقف على نوع الكفر، وأسبابه، ولماذا عنونت ديوانها الأول بهذا العنوان الذي قد يبدو مستفزا، على اعتبار أن العنوان هو عتبة النص، كما يقولون؟
بقراءة القصيدة، نكتشف أن الشاعرة تكفر بالهوى والشعر والحب والغرام الذي يأتي من شاعر يلعب بالمشاعر والأحاسيس، ويدبج كل يوم قصيدة في إحدى الحسناوات، وقد كانت بطلة القصيدة التي كفرت به، وبشعره، إحدى هؤلاء الحسناوات في يوم ما، لكنها اكتشفت الخديعة الكبرى، والوهم الذي عاشته أياما وليالي، ثم صحت من غفوتها العاطفية لتكتشف هذا الخداع الكبير، فكانت الصدمة الهائلة التي جعلتها تكفر بالحب وسنينه، وبالهوى والشعر، لتختم قصيدتها برثاء حزين، يخترم الأحاسيس والمشاعر النبيلة، فتقول:
إني كافرةٌ بهواكَ وشِعرِك
لن أؤمنَ لك !!
لن أؤمنَ بك ..
ولعل اختيار عنوان الديوان، من واقع عنوان هذه القصيدة وموضوعها، يدل دلالة أكيدة على الضرر النفسي الكبير الذي وقع على بطلة القصيدة أو أنثاها، التي تحدثت بضمير المتكلم، لتنقل لنا مدى فجيعتها في الحب والعشق والهيام، ومدى فداحة هذا الأمر بالنسبة لها، وأن الأمر يؤرقها ويقض مضجعها، ولم يكن مجرد عنوان لقصيدة من قصائد الديوان الست عشرة فحسب، ولكنه أصبح دلالة على المجموعة بكاملها، وهو يكشف من ناحية أخرى أن بطلة القصيدة أو أنثى القصيدة، كانت مخلصة في حبها، صادقة في مشاعرها تجاه الآخر، الشاعر، الذي حطَّم قلبها، ومن هنا كان رد الفعل قويا وصادما، بإعلان الكفر، فهي لا تستطيع عمل أي شيء مضاد أكثر من إعلان كفرها بهذا الحب والهوى، ولو لم تكن مخلصة وصادقة في حبها، لهان الأمر، وكان شيئا عاديا، ومرَّ بسلام.
هذه قصيدة لا تكتبها إلا أنثى شعرت بفداحة الموقف العاطفي، فكتبت كلماتها التي جاءت من تفعيلة الخبب (فعِلُن، فعْلن) ودارت حول مركزها (إني كافرةٌ).
وينقلنا هذا إلى البحث عن مشاعر المرأة وأحاسيسها التي تناثرت في هذا الديوان، فنجد قصيدة "لو" التي تكشف حجم الحب والعشق الذي يمارسه الطرف الآخر (الرجل) الذي يقول لمحبوبته:
عيناكِ تسبحُ في غمامٍ
غارقٍ في بحر دمع
خائفٍ سجن الفراق
كم نمتِِ عُمْرًا فوق ثغري
كم رفَّ وهجُكِ فوق شعري
إني رسمتُك زهرةً منذ الطفولةِ
فوق صدري
أحرفا لاسمٍ يطوفُ بنبضِ فكري
سميتُك ـ قبلَ المُسمى ـ أمنيةْ
والآنَ بتِ تحملين
أسماءَ كلِّ النسوةِ
هذا هو المحب الذي كان يناوش فتاته عاطفيا في يناير 1990 وظلت العلاقة العاطفية ممتدة في الديوان حتى فُجعت الشاعرة في هذا المحب الولهان، فكفرت به، وتراجعت عن إيمانها به، في مايو 2000 تاريخ كتابة قصيدة كافرة.
ومن هنا نجد وشائج قربى أو وشائج صلة، بين القصيدتين، الأمر الذي يدل على الرابط الدقيق الذي يحكم العلاقة بين قصائد الديوان التي اخترتها بذكاء شديد شاعرتُنا، ومع إيغالنا في بقية قصائد الديوان ربما نكتشف القوانين الفنية والموسيقية والذاتية التي تحكم هذه العلاقة.
ولعل من هذه القوانين الموسيقية، أن قصيدة "لو" المكتوبة في 1990 جاءت تفعيلاتها من بحر الكامل ذي التفعيلة السباعية (متَفاعلن، متْفاعلن) بينما جاءت قصيدة "كافرة" من تفعيلة الخبب الرباعية (فعِلُن، فعْلن) ذات الأصل الخماسي (فاعلن) وهو أمر له دلالات نفسية، فحين كان الحب يرفرف في الحياة، والغزل يحلق في الفضاء النفسي للنص، كانت تفعيلة الكامل باتساع حروفها وقدرتها على التعبير السباعي الممتد سيدة الموقف العاطفي، وفي حالة الكفر بهذا الحب يتحول الكامل السباعي إلى تفعيلة رباعية (ثلاث حركات فساكن) أو (متحرك فساكن، فمتحرك فساكن) ليعبر عن الضيق النفسي والرغبة في التخلص من هذا الخداع الكبير، ومن هذه الشحنة العاطفية التي اشتعلت طوال عشر سنوات، وآن لها أن تنطفئ، فأزاحت من طريقها حركتين فساكن، أو كما يقال في مصطلحات علم العروض (وتد مجموع) حيث كان الحب يجمع بينهما، ومثبتا في الروح كالوتد المثبت في الأرض.
هذه هي القوانين الموسيقية التي تحكمت في الإيقاع النفسي للقصيدتين رغم بعادهما الزمني الذي استغرق عشر سنوات.
وقبل أن تكفر الشاعرة بالحب والهوى، كانت هناك أهزوجة بعنوان "وجه" (أغسطس 1999) تقول فيها الشاعرة:
فأيَّةُ لفتةٍ منكَ
تُعلمني لغاتِ الشعرِ والنثرِ
تُعلمني حروفَ النطقِ والمنطقْ
تُعلمني رفيفَ الطيرِ والتغريدِ والشَّدْوِ
تُعلمني .. صدى وطني
وكما نعرف فإن الأهازيج تحمل في طياتها نوعا من الفرح والبهجة والسرور، وتأتي موسيقاها صاخبة بعض الشيء، حيث العزف على وتر التفعيلة السباعية (مفاعلَتن، مفاعيلن).
هنا نلاحظ صعود الإحساس بالوطن في أهازيج الشاعرة (تعلمني .. صدى وطني) حيث تنتقل من الحب الشخصي إلى حب الوطن، والتغني به. وعلى الرغم من كفرها بالحب والهوى، كما سبق أن رأينا في قصيدة "كافرة" وقصائد أخرى، فإن إيمانها بالوطن والأرض يزداد ويرسخ، فتصرخ في غضب:
الأرضُ تصرخُ .. تُغتصبْ
الأرضُ تبتلعُ الغضبْ
وتلملمُ الأطرافَ نُثرتْ في المدى
وتِكنُّ حُبلى بالجماجمِ والعفنْ
لوزاتُ قطنٍ شاهدهْ
وتوشَّحتْ وجهَ الحدادِ
على الوطنْ
السوسُ ينخرُ في العصب
النيلُ .. دجلةُ .. والفراتُ .. ذليلةٌ
بيدِ اليهودِ تنجستْ
وهي في غمرة انفعالها بقضايا الوطن الكبرى، وصراعه مع العدو التقليدي، تستخدم في عام 1997 كلمة (صبأتُ) في قولها:
كنتُ البرئيةَ يا أبي
كالفجرِ يرجوه الصباح
ولقد صبأتُ كنسمةٍ في ظهرِ يومٍ قائظٍ
وصبأ الرجل: ترك دينه ودان بآخر. والصابئون: من يتركون دينهم ويدينون بآخر.
أما الكفرُ فهو عدم الإيمان بالله أو النبوة أو الشريعة، أو بثلاثتها.
هذا عن المعنى اللغوي، الذي انحرفت به الشاعرة، أو فجرته الشاعرة، ليصبح الكفر كفرا بالحب والهوى، وتصبح هي مثل نسمة صبأت، أو تركت حرَّها لتجري وراء أجواء أخرى تشبعها تلطيفًا، مثل الذي يصبأ عن دينه، وينعم بدين آخر، وفي هذه الحالة سيكون الولاء للدين الجديد، أشد.
وعودة إلى الهم العاطفي الأكثر سيطرة على قصائد الديوان، لنرى الشاعرة تكتب في عام 2001، بعد كفرها في عام 2000، قصيدة بعنوان "إخلاص"، نلمح فيها تنويعات أخرى على خيانة الحبيب، وعبثه، ولكن المفاجأة أن أنثى القصيدة تعلن حالة تمردها، وتشعره أنها تخونه، مثلما يخونها، أو تخلص له جدا، مثلما يخلص لها جدا، والمقصود هنا الوجه الآخر للإخلاص، وهو الخيانة، فأنثى القصيدة تقصد المعنى المضاد للإخلاص، أو تقصد السخرية بهذه الكلمة، فهي تقول الكلمة، وتريد عكسها، فنقرأ على سبيل المثال قولها الخببي:
تخلصُ لي ..
إخلاصك للسيقانِ إذا اندلقت في الطرقات
تخلصُ لي ..
إخلاصك للأردافِ المهتزةِ
زلزلةً فوق الأرض
تخلصُ لي ..
وخصوصًا حين تطل إليك ..
نهودُ الحسناوات
تفرُّ إليك بلا مقود
تخلصُ لي ..
وكذلك أخلصُ مثلَك !!
ويعفُّ لسان أنثى القصيدة عن ذكر أو تعداد حالات الإخلاص (أي الخيانات) الحسية التي من الممكن للقارئ أن يتخيلها، واكتفت بقولها: وكذلك أخلص مثلك، مع إسدال الستار على نهاية القصيدة.
لقد رسمت لنا أنثى القصيدة مجموعة من المشاهد الحسية العميقة، لتحفر في أذهاننا بعض صور الخيانات، التي تسببت في يوم ما في إعلان الكفر بالحب والهوى، فأي حب عفيف وأي عشق نظيف، تستطيع أن تمارسه أنثى القصيدة بعد هذا الفيض الحسي؟.
لقد انهزم المعنوي والعاطفي، أمام الحسي والجسدي، فأرادت أن تطبق شعار: السن بالسن، والعين بالعين، والبادئ أظلم، فأوهمت حبيبها، وأوهمتنا، أنها ستفعل مثله، وأعتقد أنها مجرد رسالة تحذيرية، أو مجرد تنبيه، بأنها تستطيع أن تخوض مثله فضاء الحسي والجسدي. ولكنها أمسكت عن الكلام بعد ذلك، الأمر الذي يوحي بأنها لم تفعل.
أيضا في قصيدة "بصباص" نرى تنويعات أخرى، على المقامات الحسية والجسدية، تفضح بها الطرف الآخر الذي تحذره في الوقت نفسه من الاقتراب من أنثى أخرى، فتقول:
لن تقرَبها ..
لن تتمسحَ في ظلِّ يديها
في أضواءِ الشفتين الساطعةِ
بلا حد
في أبعادِ النهدين
الطيارينِ
المنطلقينِ بلا قيد
لن تقرَبها: قولا أو فعلا
أو همسًا أو حرفا.
ولكنها تقع في وهم آخر بأن فتاها لا يزال يعشقها، لذا تتهمه تهمة صغيرة من الممكن أن تفتح له مجال التوبة في عالم الحب، وهي تهمة (البصبصة) وتناديه بقولها (يا بصباص) فاتحة بذلك الباب لنوع من العتاب الذي قد يؤدي إلى عودته لصوابه معها، وتقديم اعتذاره إليها، فتعود المياه لمجاريها، وتعود قصة الحب والعشق لتحلق في فضاء الكون.
إن أنثى القصيدة تحن إذن إلى حبيبها، وتشتاق إليه، وتدافع عنه، إنه عشق مجنون، مثل كفرها المجنون، وعلى الرغم من أن الشاعرة لم تؤرخ قصيدتها "إلا إليك"، فإننا نذهب إلى أن تاريخ كتابتها كان قبل عام 2000، أي قبل إعلان كفرها الصريح في قصيدتها المركزية "كافرة".
تقول الأنثى في قصيدة "إلا إليك":
تركتك تلهو بي دميةً، قرنفلةً، ياسمينهْ
شهرًا، شهورًا، سنين
فليقلْ من يشاءُ، وتغرسُ ألسنةُ القائلين
الحدادَ .. بظهري .. بقلبي
فلن ينزفَ القلبُ غيرَك
لن يفتحَ الدمعُ مجراهُ إلا إليك
ولن تشهقَ الآهةُ غصنَ شجاها
إلا على ظلك المنتمي لشطآننا
لقد خرجت أنثى القصيدة، أو فلنقل أنثى الديوان، من تجربتها العاطفية المثيرة ـ وبعد إعلان كفرها على النحو الذي رأيناه سابقا ـ ببعض الوصايا التي تحمل شرارة الثورة على وضعية المرأة العورة، أو المرأة الأمَةَ، كما أسمتها في عنوان آخر قصيدة بالديوان "أمة"، فتخاطب المرأة بصيغة الجمع قائلة:
اكْشفنَ الوجه
عرَّيْنَ الصدر
وتعلمن فنَّ التدليل
فنَّ مغازلةَ الآخرِ والتقبيل
فُجْرَ النظراتِ وقُبْحَ الرغبةِ
ومراسيمَ المتعِ المكشوفةِ
فما أنتُنَّ سوى عوراتٍ فوق القدمينِ تسير
تُغري أحجارَ الأرضِ
أغصانَ الشجر تميل.
إن هذه الوصايا، التي جاءت في صيغة أوامر (اكشفن، عرين، تعلمن) تحمل في طياتها نوعا من السخرية من الوضع الجديد للمرأة، مثلما رأينا من قبل تعبير الشاعرة بكلمة الإخلاص، وكانت تريد بها الوجه الآخر له، أي الخيانة، كذلك فإنها بكشفها عن عري المرأة، إنما تنبه على خطورة وضعية المرأة الآن، التي لا تملك سوى الجسد وفن المغازلة، وقبح الرغبة، وهو ما أدى إلى كفرها بكل أنواع العشق والغرام التي يتم مبادلتها أو ممارستها ضمن مراسيم المتع المكشوفة.
ومن ثم تأتي تلك القصيدة الأخيرة، صرخة احتجاج من المرأة على المرأة، وبذلك يكسب فن الشعر شاعرة واعدة بالكثير من تفجير قضايا المرأة شعرا، واحتجاجا، وكفرا.
بقراءة القصيدة، نكتشف أن الشاعرة تكفر بالهوى والشعر والحب والغرام الذي يأتي من شاعر يلعب بالمشاعر والأحاسيس، ويدبج كل يوم قصيدة في إحدى الحسناوات، وقد كانت بطلة القصيدة التي كفرت به، وبشعره، إحدى هؤلاء الحسناوات في يوم ما، لكنها اكتشفت الخديعة الكبرى، والوهم الذي عاشته أياما وليالي، ثم صحت من غفوتها العاطفية لتكتشف هذا الخداع الكبير، فكانت الصدمة الهائلة التي جعلتها تكفر بالحب وسنينه، وبالهوى والشعر، لتختم قصيدتها برثاء حزين، يخترم الأحاسيس والمشاعر النبيلة، فتقول:
إني كافرةٌ بهواكَ وشِعرِك
لن أؤمنَ لك !!
لن أؤمنَ بك ..
ولعل اختيار عنوان الديوان، من واقع عنوان هذه القصيدة وموضوعها، يدل دلالة أكيدة على الضرر النفسي الكبير الذي وقع على بطلة القصيدة أو أنثاها، التي تحدثت بضمير المتكلم، لتنقل لنا مدى فجيعتها في الحب والعشق والهيام، ومدى فداحة هذا الأمر بالنسبة لها، وأن الأمر يؤرقها ويقض مضجعها، ولم يكن مجرد عنوان لقصيدة من قصائد الديوان الست عشرة فحسب، ولكنه أصبح دلالة على المجموعة بكاملها، وهو يكشف من ناحية أخرى أن بطلة القصيدة أو أنثى القصيدة، كانت مخلصة في حبها، صادقة في مشاعرها تجاه الآخر، الشاعر، الذي حطَّم قلبها، ومن هنا كان رد الفعل قويا وصادما، بإعلان الكفر، فهي لا تستطيع عمل أي شيء مضاد أكثر من إعلان كفرها بهذا الحب والهوى، ولو لم تكن مخلصة وصادقة في حبها، لهان الأمر، وكان شيئا عاديا، ومرَّ بسلام.
هذه قصيدة لا تكتبها إلا أنثى شعرت بفداحة الموقف العاطفي، فكتبت كلماتها التي جاءت من تفعيلة الخبب (فعِلُن، فعْلن) ودارت حول مركزها (إني كافرةٌ).
وينقلنا هذا إلى البحث عن مشاعر المرأة وأحاسيسها التي تناثرت في هذا الديوان، فنجد قصيدة "لو" التي تكشف حجم الحب والعشق الذي يمارسه الطرف الآخر (الرجل) الذي يقول لمحبوبته:
عيناكِ تسبحُ في غمامٍ
غارقٍ في بحر دمع
خائفٍ سجن الفراق
كم نمتِِ عُمْرًا فوق ثغري
كم رفَّ وهجُكِ فوق شعري
إني رسمتُك زهرةً منذ الطفولةِ
فوق صدري
أحرفا لاسمٍ يطوفُ بنبضِ فكري
سميتُك ـ قبلَ المُسمى ـ أمنيةْ
والآنَ بتِ تحملين
أسماءَ كلِّ النسوةِ
هذا هو المحب الذي كان يناوش فتاته عاطفيا في يناير 1990 وظلت العلاقة العاطفية ممتدة في الديوان حتى فُجعت الشاعرة في هذا المحب الولهان، فكفرت به، وتراجعت عن إيمانها به، في مايو 2000 تاريخ كتابة قصيدة كافرة.
ومن هنا نجد وشائج قربى أو وشائج صلة، بين القصيدتين، الأمر الذي يدل على الرابط الدقيق الذي يحكم العلاقة بين قصائد الديوان التي اخترتها بذكاء شديد شاعرتُنا، ومع إيغالنا في بقية قصائد الديوان ربما نكتشف القوانين الفنية والموسيقية والذاتية التي تحكم هذه العلاقة.
ولعل من هذه القوانين الموسيقية، أن قصيدة "لو" المكتوبة في 1990 جاءت تفعيلاتها من بحر الكامل ذي التفعيلة السباعية (متَفاعلن، متْفاعلن) بينما جاءت قصيدة "كافرة" من تفعيلة الخبب الرباعية (فعِلُن، فعْلن) ذات الأصل الخماسي (فاعلن) وهو أمر له دلالات نفسية، فحين كان الحب يرفرف في الحياة، والغزل يحلق في الفضاء النفسي للنص، كانت تفعيلة الكامل باتساع حروفها وقدرتها على التعبير السباعي الممتد سيدة الموقف العاطفي، وفي حالة الكفر بهذا الحب يتحول الكامل السباعي إلى تفعيلة رباعية (ثلاث حركات فساكن) أو (متحرك فساكن، فمتحرك فساكن) ليعبر عن الضيق النفسي والرغبة في التخلص من هذا الخداع الكبير، ومن هذه الشحنة العاطفية التي اشتعلت طوال عشر سنوات، وآن لها أن تنطفئ، فأزاحت من طريقها حركتين فساكن، أو كما يقال في مصطلحات علم العروض (وتد مجموع) حيث كان الحب يجمع بينهما، ومثبتا في الروح كالوتد المثبت في الأرض.
هذه هي القوانين الموسيقية التي تحكمت في الإيقاع النفسي للقصيدتين رغم بعادهما الزمني الذي استغرق عشر سنوات.
وقبل أن تكفر الشاعرة بالحب والهوى، كانت هناك أهزوجة بعنوان "وجه" (أغسطس 1999) تقول فيها الشاعرة:
فأيَّةُ لفتةٍ منكَ
تُعلمني لغاتِ الشعرِ والنثرِ
تُعلمني حروفَ النطقِ والمنطقْ
تُعلمني رفيفَ الطيرِ والتغريدِ والشَّدْوِ
تُعلمني .. صدى وطني
وكما نعرف فإن الأهازيج تحمل في طياتها نوعا من الفرح والبهجة والسرور، وتأتي موسيقاها صاخبة بعض الشيء، حيث العزف على وتر التفعيلة السباعية (مفاعلَتن، مفاعيلن).
هنا نلاحظ صعود الإحساس بالوطن في أهازيج الشاعرة (تعلمني .. صدى وطني) حيث تنتقل من الحب الشخصي إلى حب الوطن، والتغني به. وعلى الرغم من كفرها بالحب والهوى، كما سبق أن رأينا في قصيدة "كافرة" وقصائد أخرى، فإن إيمانها بالوطن والأرض يزداد ويرسخ، فتصرخ في غضب:
الأرضُ تصرخُ .. تُغتصبْ
الأرضُ تبتلعُ الغضبْ
وتلملمُ الأطرافَ نُثرتْ في المدى
وتِكنُّ حُبلى بالجماجمِ والعفنْ
لوزاتُ قطنٍ شاهدهْ
وتوشَّحتْ وجهَ الحدادِ
على الوطنْ
السوسُ ينخرُ في العصب
النيلُ .. دجلةُ .. والفراتُ .. ذليلةٌ
بيدِ اليهودِ تنجستْ
وهي في غمرة انفعالها بقضايا الوطن الكبرى، وصراعه مع العدو التقليدي، تستخدم في عام 1997 كلمة (صبأتُ) في قولها:
كنتُ البرئيةَ يا أبي
كالفجرِ يرجوه الصباح
ولقد صبأتُ كنسمةٍ في ظهرِ يومٍ قائظٍ
وصبأ الرجل: ترك دينه ودان بآخر. والصابئون: من يتركون دينهم ويدينون بآخر.
أما الكفرُ فهو عدم الإيمان بالله أو النبوة أو الشريعة، أو بثلاثتها.
هذا عن المعنى اللغوي، الذي انحرفت به الشاعرة، أو فجرته الشاعرة، ليصبح الكفر كفرا بالحب والهوى، وتصبح هي مثل نسمة صبأت، أو تركت حرَّها لتجري وراء أجواء أخرى تشبعها تلطيفًا، مثل الذي يصبأ عن دينه، وينعم بدين آخر، وفي هذه الحالة سيكون الولاء للدين الجديد، أشد.
وعودة إلى الهم العاطفي الأكثر سيطرة على قصائد الديوان، لنرى الشاعرة تكتب في عام 2001، بعد كفرها في عام 2000، قصيدة بعنوان "إخلاص"، نلمح فيها تنويعات أخرى على خيانة الحبيب، وعبثه، ولكن المفاجأة أن أنثى القصيدة تعلن حالة تمردها، وتشعره أنها تخونه، مثلما يخونها، أو تخلص له جدا، مثلما يخلص لها جدا، والمقصود هنا الوجه الآخر للإخلاص، وهو الخيانة، فأنثى القصيدة تقصد المعنى المضاد للإخلاص، أو تقصد السخرية بهذه الكلمة، فهي تقول الكلمة، وتريد عكسها، فنقرأ على سبيل المثال قولها الخببي:
تخلصُ لي ..
إخلاصك للسيقانِ إذا اندلقت في الطرقات
تخلصُ لي ..
إخلاصك للأردافِ المهتزةِ
زلزلةً فوق الأرض
تخلصُ لي ..
وخصوصًا حين تطل إليك ..
نهودُ الحسناوات
تفرُّ إليك بلا مقود
تخلصُ لي ..
وكذلك أخلصُ مثلَك !!
ويعفُّ لسان أنثى القصيدة عن ذكر أو تعداد حالات الإخلاص (أي الخيانات) الحسية التي من الممكن للقارئ أن يتخيلها، واكتفت بقولها: وكذلك أخلص مثلك، مع إسدال الستار على نهاية القصيدة.
لقد رسمت لنا أنثى القصيدة مجموعة من المشاهد الحسية العميقة، لتحفر في أذهاننا بعض صور الخيانات، التي تسببت في يوم ما في إعلان الكفر بالحب والهوى، فأي حب عفيف وأي عشق نظيف، تستطيع أن تمارسه أنثى القصيدة بعد هذا الفيض الحسي؟.
لقد انهزم المعنوي والعاطفي، أمام الحسي والجسدي، فأرادت أن تطبق شعار: السن بالسن، والعين بالعين، والبادئ أظلم، فأوهمت حبيبها، وأوهمتنا، أنها ستفعل مثله، وأعتقد أنها مجرد رسالة تحذيرية، أو مجرد تنبيه، بأنها تستطيع أن تخوض مثله فضاء الحسي والجسدي. ولكنها أمسكت عن الكلام بعد ذلك، الأمر الذي يوحي بأنها لم تفعل.
أيضا في قصيدة "بصباص" نرى تنويعات أخرى، على المقامات الحسية والجسدية، تفضح بها الطرف الآخر الذي تحذره في الوقت نفسه من الاقتراب من أنثى أخرى، فتقول:
لن تقرَبها ..
لن تتمسحَ في ظلِّ يديها
في أضواءِ الشفتين الساطعةِ
بلا حد
في أبعادِ النهدين
الطيارينِ
المنطلقينِ بلا قيد
لن تقرَبها: قولا أو فعلا
أو همسًا أو حرفا.
ولكنها تقع في وهم آخر بأن فتاها لا يزال يعشقها، لذا تتهمه تهمة صغيرة من الممكن أن تفتح له مجال التوبة في عالم الحب، وهي تهمة (البصبصة) وتناديه بقولها (يا بصباص) فاتحة بذلك الباب لنوع من العتاب الذي قد يؤدي إلى عودته لصوابه معها، وتقديم اعتذاره إليها، فتعود المياه لمجاريها، وتعود قصة الحب والعشق لتحلق في فضاء الكون.
إن أنثى القصيدة تحن إذن إلى حبيبها، وتشتاق إليه، وتدافع عنه، إنه عشق مجنون، مثل كفرها المجنون، وعلى الرغم من أن الشاعرة لم تؤرخ قصيدتها "إلا إليك"، فإننا نذهب إلى أن تاريخ كتابتها كان قبل عام 2000، أي قبل إعلان كفرها الصريح في قصيدتها المركزية "كافرة".
تقول الأنثى في قصيدة "إلا إليك":
تركتك تلهو بي دميةً، قرنفلةً، ياسمينهْ
شهرًا، شهورًا، سنين
فليقلْ من يشاءُ، وتغرسُ ألسنةُ القائلين
الحدادَ .. بظهري .. بقلبي
فلن ينزفَ القلبُ غيرَك
لن يفتحَ الدمعُ مجراهُ إلا إليك
ولن تشهقَ الآهةُ غصنَ شجاها
إلا على ظلك المنتمي لشطآننا
لقد خرجت أنثى القصيدة، أو فلنقل أنثى الديوان، من تجربتها العاطفية المثيرة ـ وبعد إعلان كفرها على النحو الذي رأيناه سابقا ـ ببعض الوصايا التي تحمل شرارة الثورة على وضعية المرأة العورة، أو المرأة الأمَةَ، كما أسمتها في عنوان آخر قصيدة بالديوان "أمة"، فتخاطب المرأة بصيغة الجمع قائلة:
اكْشفنَ الوجه
عرَّيْنَ الصدر
وتعلمن فنَّ التدليل
فنَّ مغازلةَ الآخرِ والتقبيل
فُجْرَ النظراتِ وقُبْحَ الرغبةِ
ومراسيمَ المتعِ المكشوفةِ
فما أنتُنَّ سوى عوراتٍ فوق القدمينِ تسير
تُغري أحجارَ الأرضِ
أغصانَ الشجر تميل.
إن هذه الوصايا، التي جاءت في صيغة أوامر (اكشفن، عرين، تعلمن) تحمل في طياتها نوعا من السخرية من الوضع الجديد للمرأة، مثلما رأينا من قبل تعبير الشاعرة بكلمة الإخلاص، وكانت تريد بها الوجه الآخر له، أي الخيانة، كذلك فإنها بكشفها عن عري المرأة، إنما تنبه على خطورة وضعية المرأة الآن، التي لا تملك سوى الجسد وفن المغازلة، وقبح الرغبة، وهو ما أدى إلى كفرها بكل أنواع العشق والغرام التي يتم مبادلتها أو ممارستها ضمن مراسيم المتع المكشوفة.
ومن ثم تأتي تلك القصيدة الأخيرة، صرخة احتجاج من المرأة على المرأة، وبذلك يكسب فن الشعر شاعرة واعدة بالكثير من تفجير قضايا المرأة شعرا، واحتجاجا، وكفرا.